عندما أضعنا نبوءات الأيّام الأخيرة!


بقلم فادي أبو ديب

“طوبى للذي يقرأ وللذين يسمعون اقوال النبوة ويحفظون ما هو مكتوب فيها لان الوقت قريب”

رؤيا يوحنّا بن زبدي 1: 3

إن التواضع فضيلة إلهية ساميةً. وهي إذ كانت سرّاً للتواصل الصَّحيح بين البشر فهي أيضاً مفتاحٌ رئيسيٌّ لفهم الكتاب المقدَّس. وإذ كان هناك مبادئٌ لدراسة وتفسير كلمة الله، فإنّ التواضع يأتي على رأسها. فلطالما وقع كبارٌ في فخّ الأخطاء بسبب التعنُّت أو خوفهم من التنازل عن آرائهم. وهذا يتطلَّب منّا أن نبقي لدينا دوماً هامشاً من إمكانية البحث عن فهمٍ غير دقيقٍ أو موجَّهٍ كنّا قد صُغناه أو اعتنقناه سابقاً. أقول هذا وأنا أقصد تحديداً الكثير من المقاطع الكتابية التي توصم بالغموض والصعوبة. وهذا لا يعني أن نستسلم ونفتح المجال لعشرات التفاسير أن تحتلّ مراكز متساوية في أعماقنا. فعلى كلٍّ منا أن يكون لديه إيمانٌ واضحٌ في كل النواحي اللاهوتية، يصل إليه بعد دراسةٍ متعمِّقة متسربلة بالتواضع. ولكن هذا لا يمنع، في ذات الوقت، أن نبقي المجال مفتوحاً. لا بل إنه من الضروري أن يبقى مشرَّعاً أمام النقاش والجدال البنّاء الذي قد يصل بنا إلى تغيير رأينا وإيماننا ببعض النقاط، أو على الأقل بلورة هذا الإيمان استناداً إلى ما هو مكتوب. وهذا يتطلَّب الشجاعة بجانب التواضع، مما يسمح لنا بأن نتقبَّل إمكانية وقوعنا في الخطأ أو عدم الدقّة، ونعلن بكل رحابة صدر أننا سوف نعيد النَّظَر في هذه النقطة أو تلك.

النبوءات هي من أكثر المقاطع الكتابية عُرضةً للإهمال اليوم في جوانب واسعة من الكنيسة المسيحية. بعض هذا الإهمال ناجمٌ عن مواقف مسبقة ترفض النبوءات. وهنا نجد تحذير بولس الرسول لأهل تسالونيكي ينطبق بجلاء مطالِباً بألا نحتقرها وألا نطفئ الروح (1 تساونيكي5: 20). أمّا البعض الآخر فهو بسبب القلق من الدخول في تعقيدات هذه المقاطع الكتابية المُبارَكة. إلا أنه لا يجب أن ننسى بأنّنا مدعوّون لأن “نفتِّش الكتب” ونفحصها بكلّ نشاط، وأننا سنكون شرفاء مباركين إن نحن درسنا بدقّة المقاطع الكتابية كما فعل أهل بيريّة، مستحقّين على عملهم هذا مديحاً أكبر من أخوتهم في تسالونيكي (أعمال الرُّسل17: 11).

إن الكتاب المقدَّس زاخرٌ بالنبوءات التي تتطلّب منا الدراسة بكلّ دقة وتواضع. كما أنّ أسفاراً نبويّة رائعة كأشعياء وحزقيال وزكريّا ودانيال وصفنيا وحبقوق ورؤيا يوحنّا وغيرها لم تُكتَب لتصبح هباءاً منسيّاً، بل لكي تكون بركةً وأملاً وعوناً للمؤمنين في تبصُّرهم للأيّام الأخيرة . وإذ كان الرب يسوع المسيح، ومن بعده رسوله بولس قد طلبا منّا ألا نبحث عن الأوقات والأزمنة (أعمال الرُّسل1: 7، 1تسالونيكي5: 1و2)، إلا أنهما لم يطلبا منّا الابتعاد عنها، فنجد الرب يسوع المسيح يوبِّخ رجال الدين الناموسيين لأنهم لا يميِّزون الأزمنة. لذا علينا أن نحذر كلّ الحذر من أن نكون مشابهين لرجال الدين أولئك الذين ظنّوا أنهم حكماء وعارفين الكتب، ولا حاجة لهم لدراستها بشكل أعمق. هذا التعنُّت منعهم من أن يُبصِروا الحقيقة الجليّة المدوَّنة في كلمة الله في غير موضعٍ. إهمالهم للنبوءات حرمهم الخلاص، وما أخشاه أن يحرمنا إهمالنا للنبوءات الكثير من البركات الرّوحية. لقد كان الفرّيسيّون والصدّوقيّون واثقين جدّاً من معرفتهم وعلمهم الغزير. ولكنهم في الحقيقة كانوا بعيدين كل البُعد عن المعرفة الحقيقية. حتّى إنّ الرب يسوع وبّخ نيقوديموس بسبب جهله وهو “معلِّم إسرائيل”، فلو كان قد قرأ حَزقِيال 36: 24-27 بتمعُّنٍ وقلبٍ منفتح لكان ربّما شارف على استيعاب ما قاله يسوع عن ضرورة الولادة الجديدة من الماء والرّوح. فإذا لم نعد للاهتمام بالنبوءات ونخصِّص لها حيِّزاً هامّاً من علاقتنا بكلمة الرب، لا يحقّ لنا أن نلوم قادة اليهود على عدم إيمانهم، فهم أيضاً لم يريدوا دراسة النبوءات واكتفوا بما ورثوه عن آبائهم ومعلِّميهم، أو ربمّا خافوا من مغبّة الاعتراف بمسيّا وربٍّ مخلِّصٍ كان سيفتح أمامهم أبواب الجحيم الرّوماني على مصراعيه. كما أننا لا نكون قد اختلفنا كثيراً عن بعض اللاهوتيين المسيحيين، كرودولف بولتمان مثلاً، الذين أرادوا ديناً يقبله المجتمع، فرفضوا بشكلٍ مسبَق قبول المعجزات والأحداث الخارقة للطبيعة المدوَّنة في الكتاب المقدَّس، رُغم أنّ التاريخ يسجِّل لبعضهم نيَّتهم الطيِّبة لفعلتهم تلك. إلا أن النيّات الطيِّبة لا تسعفنا دائماً بما هو صحيح. لا أريد لأحدٍ أن يظنّ أنني أُسَاوي بين اللاهوت المتحرِّر وإهمال النبوءات. أبداً. ولكنني أنوِّه إلى ما قد تجرُّه علينا بعض الاعتبارات والمواقف المسبَقة.

لا شكّ أنّ الكنيسة اليوم تواجه تحدّيات كبيرة على صعيد المجتمع، ولكن هذا لا ينبغي أن يلهيها عن الدراسة الدائمة وغير المنقطعة للكتاب المقدَّس. فلطالما كانت النبوءات مصدر تعزية لشعب الله منذ القديم وحتى أيّام الكنيسة الأولى. وإن شابَ الخطأ بعض المعتَقَدات فإن هذا لا يبرِّر لنا أبداً التوقُّف عن دراسة هذه النبوءات ومناقشتها ووضعها دائماً نصب أعيننا. نحن امتدادٌ للشعب المؤمن منذ أيام إبراهيم وإسحق ويعقوب وموسى وداود ويوحنا المعمدان وسمعان الشيخ وبطرس وبولس وعشرات آلاف المؤمنين ، الذين كانوا يعيشون الحالة المستقبلية بكلّ شوقٍ منقطع النظير. فلا يجب أن تغوص كنيسة اليوم في مشاكلها المعاصرة فحسب، بل عليها أن تعيش منذ الآن في حالة المجد الأبدية. كيف لا؟! وهي واثقة وراجية بما وعد به عريسها يسوع المسيح الذي ذهب ليعدَّ لها مكاناً.

إن هذه الرؤية لحياةٍ أفضل لا تتم إلا بأن نتمثَّل بالرب يسوع بكل شجاعة، وأن ندرس كلمته التي أعلنها منذ القديم ابتداءً من أول كلمات سفر التكوين. فنحن لا نعيش اليوم وغداً نموت، لا بل مدعوّين لأن نعيش الأفراح المستقبلية في أرواحنا منذ الآن. وهذا لا يمكن أن يحصل إن كنّا نغرق في مستنقع الأحداث المعاصرة بدون أن نراها بعين النبوءة والخطّة الإلهية.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.