فادي أبو ديب
عندما أنظر إلى مسار حياتي حتى الآن، لا أستطيع إلا أن أسمع شفتاي تهمسان مع داود: “إن أخذتُ جناحي الصبح، وسكنت في أقاصي البحر، فهناك أيضاً تهديني يدك، وتمسكني يمينك” (مزمور 139: 9و10).
لينظر كل مؤمن مختبِر إلى أيّامه الماضية، حين كان تائهاً يصارع أمواج هذا العالم، حين كان يغرق في وحول الخطية يوماً بعد يوم، دون أن يكون في الأفق القريب أي أمل بالنجاة، رغم أن قلبه كان توّاقاً للخلا، سيجد أن الرب كان يحرسه ويوجِّه خطواته، ويحمله على منكبيه. وأن كل الأشياء كانت تجتمع معاً في مزيجٍ غريب، غير مفهوم، كي تصنع منه رجلاً بحسب قلب الرب.
لم أنهِ كتابة هذه الكلمات بعد، حتى وصلتني رسالة مجهولة على هاتفي المحمول، تقول:
” مساء يسوع، انتظر الرب، ليتشدد وليتشجع قلبك، وانتظر الرب. سلام المسيح “.
مع العلم أنه لم تصلني قطّ من قبل مثل هذه الرسالة، سواء كانت معروفة المصدر أم مجهولته. ولم تمضِ دقائق على صراخي إلى الرب الإله من أجل أمر يحيّرني.
ما أجمل تعزيات الرب حين تلفحنا نسمات كلماته على حين غرّة ! كما يقول ربنا ومخلصنا يسوع المسيح له كل المجد:
” الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها، ولكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب…” (يوحنا 3: 8أ)
وكم هو جميل أن يقاطع الرب أفكاري وكتابتي، ليقول لي :أنا هنا يا بنيّ”!
لا يمكن لأي مؤمن أن يأخذ كلمات الوحي المبارك في مزمور 139: 2-18 على وجه الخصوص على أنها مجرّد كلمات تسبيح وعبادة. فالمؤمن المختبِر يرى أن الرب كان يقوده ويوجِّهه ويستخدم كل الوسائل من أجله. وأنه قد صمَّمه وشكّله وأحبّه فعلاً، وبكل ما للكلام من معنى، قبل تأسيس العالم.
وهذا المعنى نجده فيما عبّر عنه بشكل رائع الرسول بولس، حين قال:
“لأن جميع الأشياء هي من أجلكم…” (2كورنثوس4 :15)
وحين صرّح في تحفة الوحي على لسانه إلى أهل رومية بأنّ “كلّ الأشياء تعمل معاً للخير، للذين يحبّون الله، االذين هم مدعوون حسب قصده” (رومية8: 28). فكل ما يفعله الله في العالم هو لأجل محبّيه، الذين يبحثون عنه بكل صدق وأمانة وتواضع. وذلك كي يأتي بهم إلى ملكوته المجيد المنظور جزئياً في كنيسته المباركة التي أبدعها.
أؤمن بأنّ الرب يريد أن يشارك في كثير من الأحيان محبّيه بغرضه وخطته لأجل حياتهم. فمن خلال اختباري المتواضع أرى أنّ الله يلجأ إلى منح أولاده ما يمكن أن أسميه “ومضات من المستقبل” أو “نموذج مما هو عتيدٌ أن يحدث”، أو كما يسمّيها فيليب يانسي “نسمات الأبدية”، وذلك كي يحثهم على الإيمان والرجاء بما هو خيّر ومسرّ وطاهر وجليل. قد يُعطَى المؤمن امتياز أن يرى وعود الله تتحقق في حياته الأرضية، ولكنه لا يملك إلا أن ينتظر بشوق وعود الله بشأن الحياة الأبدية في أورشليم الجديدة.
أذكر أنني عندما كنت طفلاً صغيراً، رأيت في الليل أنني كنتُ أنظر من مكانٍ عالٍ إلى مدينة صغيرة، تتسلق تلة وادعة، وكأنّا تقف وحيدةً في العالم السّاكن حولها. وقد كانت غايةً في الروعة، خاصّة وأنها كانت مغمورة بأشعة نور ذهبية قلّما نراها في حياتنا اليومية. لقد كلَّمني يومها، أو في ما تلاها من الأيام، شيءٌ ما في داخلي ليقول لي أنها مدينة الله. لم أكن أعرف يومها ما هو مدوَّن الإنجيل، ولكنني اليوم أعرف جيداً أن مسكن الرب مع شعبه سيكون مدينةً “…لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليضيئا فيها لأن مجد الله قد أنارها والخروف سراجها” (رؤيا 21: 23)، وأنّ “لها مجد الله، ولمعانها شبه أكرم حجر كحجر يشبٍ بلّوري” (رؤيا21: 11)
لا يمكن أن نفكّر في شيء قد يدفع الله إلى خلق الإنسان إلا المحبة. لقد فرح الرب الإله عندما رأى أن الكون والمصنوعات التي فيه حسنةٌ جداً. وأعتقد أنه رغب في شريك آخر يشاركه بهجة التمتع في هذا العالم، فكان خلق الإنسان. ولا ريب في أن هذا الإله المحب يرغب في أن يشارك أولاده في قيادة هذا العالم، ويرغب في أن يكون لديهم صورة، ولو كانت مشوَّشة أو ضبابية عن المجد الذي سوف يُستعلن مستقبلاً. فنحن، كما يقول الرسول بولس، “ننظر في مرآة في لغز، ولكن حينئذٍ وجهاً لوجه” (1 كورنثوس13: 12)
قد يُجرَّب البعض بأن يظنوا بأن الله لا يتكلم إلينا إلا عن طريق المعجزات والأحداث الخارقة للطبيعة. ولكن للأسف فإن هذا الاعتقاد ليس حقيقياً أبداً، فالرب يسوع يقول أن شعور رؤوسنا محصاة، وأنه حتى العصافير الصغيرة الرخيصة ليست منسيّة أمام الله (لوقا12: 6و7). فالله يستعمل كل ما هو حولنا من وسائل طبيعية للفت انتباهنا وإرشادنا. فكم من مرّة تفاجأ أحدهم باتصال غير متوقع كان بأمسّ الحاجة إليه؟ وهل يستطيع المؤمنون ان يحصوا عدد المرّات التي دخلوا فيها الكنيسة فسمعوا الواعظ يجيب بكلامه عن أسئلة تحيّرهم؟ وكم من مرّة تكلم الرب إلى أحدهم بترنيمةٍ لامست شغاف قلبه؟ إلا أن الكثيرين يميلون، سواء بالقول الصريح أو بالظن المبطَّن، إلى اعتبار أن ما ذكرته سابقاً، بالإضافة إلى مئات التدخلات الأخرى، هي عبارة عن صدفٍ سعيدة يحتة لا تمتّ للواقع الرّوحي بصلة. وهنا للأسف ربما يقع المرء في فخ الانتقاص من السيادة الإلهية، وهذا يعود إلى الضعف البشري، وضيق مداركه، وضعف قدرته على التمييز الروحي. فالكتاب المقدس يخبرنا أن لا يمكن لإنسان ان يعترف أن “يسوع رب إلا بالروح القدس” (1 كورنثوس12: 3ب ). وهذا يعني بعبارة أخرى أنه لا يمكن لإنسان أن ينطق مؤمناً بهذه العبارة إلا بتوجيه الروح القدس وإلهامه. فكيف يمكننا بعد ذلك أن “نخرِج” الله من تلك اللحظات السماوية التي نعيشها؟ وكيف يمكن لشيء عالمي بحت، خارج عن تدخل الله المباشر (كما نتصور أحياناً) أن يوجّهنا لله نفسه؟ ونحن نعلم جيداً أن كل ما هو من اهتمام الجسد هو عداوة الله (رومية8: 7). حيث أن الجسد لا يهتم إلا بالأمور المادية الأرضية التي في هذا العالم الحاضر. فأمور الله لا يعرفها أحدٌ إلا روح الله (1 كورنثوس 2: 11)، وبالتالي فإن أي شيء يوجهنا نحو الله، وعبادته، والبحث عن مشيئته والشركة معه، هو من دون شكّ أداة يستعملها الروح القدس.
يقول الرب في إشعياء 55:” كما علت السموات عن الأرض، هكذا علت أفكاري عن أفكاركم وطرقي عن طرقكم يقول الرب.” (ع9)
ماران آثا