بقلم فادي أبو ديب
يؤمن عددٌ لا بأس به من المسيحيين بفكرة شائعة وعظيمة الانتشار بأن المسيحية “ديانة” بسيطة، وأنها تتلخّص بالمجمل بأفكار بسيطة، يلخِّصها بعضهم بالمحبة أو الحصول على الخلاص، وغير ذلك من المفاهيم. وقد يلجأ بعضهم أيضاً إلى كلام بولس الرسول عندما يصارح مؤمني كورنثوس بمخاوفه من أن يزيغوا عن “البساطة التي في المسيح” (2كورنثوس11: 3). ولكن إن دقَّقنا حقّاً بالسِّياق الذي وردت فيه العبارة، سنجد أن بولس كان يتكلَّم عن بساطة الخلاص وبُعده عن الطُرُق البشريّة المختصّة بالأعمال الصالحة والفلسفات المضلّة، وهذا بلا ريب صحيح. إلا أن بولس نفسه تكلّم في رسالتي تسالونيكي عن المجيء الثاني، وفي قسم كبير من رسالة كورنثوس الأولى عن المواهب الروحية والاختطاف. كما تحدَّث في الرسائل الرعوية الثلاث (رسالتي تيموثاوس ورسالة تيطس) عن شؤون الخدمة وتنظيم الكنيسة. إذاً فالمسيحي الملتزِم والمهتمّ لا يمكن له أن يهمل أحد جوانب الحياة المسيحية بحجّة “بساطة المسيحية”، لأنه وإن كان الخلاص نعمة إلهية يتم نوالها بالإيمان، إلا أن الحياة المسيحية تتطلَّب جهاداً روحياً ورؤيةً نبويّة، وهذان الجانبان لا يمكن لهما أن يتمّا بصورة صحيحة إلا بدراسة حقيقية وجادّة للكتاب المقدَّس، بعيداً عن الفلسفات الدخيلة والغريبة.
مصدر الخطأ:
لا يمكنني أن أحدِّد السبب المباشر لمثل هذا الخطأ الفادح الذي كلَّف المسيحيين، وما زال يكلِّفهم، الكثير، إلا أنني أرى أنه بالإمكان تحديد عدة أسباب لهذا الموضوع.
- الأوّل هو الميل الفِطري للإنسان إلى “فلترة” كل ما يسمعه أو يراه أو يقرأه ليأخذ ما يهمّه من الموضوع، ومن ثمّ يقوم بجعل الفكرة هذه هي الشيء الرئيسي في سلوكه وقناعاته.
- أما السبب الثاني فهو سبب تاريخي كما أراه، ويعود إلى رغبة رجال السلطة الدينية ومتداولي الكهنوت في حدّ الاهتمام الشعبي بالكتاب المقدَّس، منعاً لصعود الحركات والتيّارات الفكرية والدينية المختلفة. فمن الطبيعي أنّ شعباً يقرأ ويدرس لا يمكن له أن يستمر في اتّباع رجال السلطة الدينية بشكل أعمى ومن دون تفكير وتمحيص. لذلك فقد روّج هؤلاء، كما أنّهم ما زالوا يروِّجون حتى اليوم، قناعةً مغرِضة مفادها بأن الحدّ الأدنى من المعرفة الكتابية هو وحده الضروري لحياة الفرد المسيحي (وقد سمعت شخصياً أحد الشخصيات الدينية المسيحية البارزة في المنطقة يدعو شعبه لعدم قراءة العهد القديم). رغم أنّ هؤلاء أنفسهم كانوا مسؤولين عن إنشاء عدة منظومات كنسية وطقسية شديدة التعقيد.
- السبب الثالث متعلِّق بالسبب الثاني، وهو انتشار مفهوم خاطئ وخطير مفاده بأن “الرب بسيط” وأن “الإنجيل البسيط”. فهل هذا حقّاً صحيح؟
هل كان يسوع بسيطاً؟
بالرّغم من الأسلوب البسيط الذي استعمله يسوع في مخاطبة الجموع، إلا أنه كان بعيداً كل البُعد عن مفهوم “البساطة”- والذي هو “سطحيّة” في الحقيقة- الذي يروِّج له البعض. فيسوع كان عالماً بدقائق الشريعة كما هو واضح من قصص الأناجيل. وعندما وبّخ الفريسيين على ريائهم في متى23، طالباً منهم إظهار الرحمة بدلاً من تقديم الذبيحة، وضّح كلامه جيداً عندما وبَخهم بشدّة قائلاً لهم: ” ويلٌ لكم أيّها الفرّيسيون والكتبة المراؤون، لأنّكم تعشِّرون النعنع والشِّبث والكمّون، وتركتم أثقل الناموس، الرَّحمة والحقّ والإيمان. كان ينبغي أن تفعلوا هذه ولا تتركوا تلك [يقصد التفاصيل الطقسية وتقديم العشور]”. وللأسف فعادةً ما يُقرَأ هذا العدد بدون العبارة الجوهرية الأخيرة، حينما يؤكِّد يسوع لهم “…كان ينبغي أن تفعلوا هذه ولا تتركوا تلك”.
كما أن يسوع ورغم اعتماده على طريقة الأمثال في تقريب مفاههيم ملكوت الله والخلاص للناس، إلا أنّه كان يشرح لتلاميذه كثيراً من الأمور العميقة. وحسب ما هو واضح، فإنّ هذا الشرح كان يُعتَبَر بركة لمن يناله. فنقرأ في إنجيل مرقس تصريحاً خطيراً يدلي يسوع به حيث يقول لتلاميذه:
“قد أُعطي لكم أن تعرفوا سرّ ملكوت الله. وأما الذين هم من خارج فبالأمثال يكون لهم كل شيء. لكي يبصروا مبصرين ولا ينظروا، ويسمعوا سامعين ولا يفهموا، لئلا يرجعوا فتُغفَر لهم خطاياهم.”(مرقس4: 11-12)
هذا المقطع الكتابي يوضِّح أن الأمثال بكل جمالها وبساطتها لم تكن “الأسلوب المفضَّل” ليسوع، بل كان يضطرّ لاستعمالها بسبب غلاظة قلب الشعب المبتعِد عن الرب. فالأمثال كانت لأولئك الذين من خارج على حدّ تعبير يسوع نفسه. أما أخطر ما في هذا المقطع فهو اعتبار يسوع أن استعماله للأمثال سوف يسبِّب عدم عودتهم وغفران خطاياهم، لأن الحقيقة الجليّة ستبقى محتجبة عنهم. ويبدو هذا واضحاً عندما يوبِّخ الجموع (وليس الفرّيسيين والكتبة فقط) فيسألهم:
“يا مراؤون تعرفون ان تميِّزوا وجه الأرض والسماء، واما هذا الزمان فكيف لا تميِّزونه؟!” (لوقا12: 56)
“بساطة” الموعظة على الجبل:
إذا دقَّقنا جيداً في الموعظة على الجبل، وتتبعنا عبارات يسوع، فسنكتشف بأنّ “يسوع البسيط” هو من نسج مخيِّلةٍ أخذت الكتاب المقدَّس بدون تدقيق. فيسوع لم يكن من أصحاب طريقة “اعتقد بما تريد، المهم أن يكون سلوكك جيِّداً”. فقد تكلّم عن المساكين بالروح، والجياع والعطاش للبرّ، والمطرودين من أجله. وأظنّ أنّه على مقياس “البساطة المزعومة”، لكانت عبارات يسوع هذه كفيلةً بوضعه في مصاف “المتفلسفين” وليس “المعلِّمين البسطاء”. أما دعوته لأن يزيد برّ تلاميذه عن برّ الكتبة والفرّيسيين، فستبدو حتماً، لأوّل وهلة، في نظر “دعاة البساطة”، تعقيداً للسامعين وتعجيزاً للمتحمِّسين لتبعيته. كما أن حديثه التفصيلي والموسَّع لمفاهيم الغضب والقتل والزنى والشهوة، كان سيتطلَّب من “دعاة البساطة” ردّاً من قبيل “يا رجل، القتل هو القتل، والزِّنى هو الزّنى، فلماذا تعقِّد المفاهيم؟!”. وهكذا هو الأمر مع حديثه عن الطلاق والزواج، فرغم أنه قدَّم المفهوم الحقيقي الوارد أساسه في سفر التكوين، إلا أنه في ذات الوقت قدّم تعقيداً شديداً لا يُطاق بالنسبة لـ”البساطة” والتسهيلات الكبيرة التي كان قد أوجدها الناموسيّون. وينطبق ذات الأمر تماماً على رفضه التام للقَسَم ولمبدأ “العين بالعين والسنّ بالسنّ” في التعاملات الفردية. فكل هذا كان سيجيب عليه “دعاة البساطة”، لو قُدِّر لهم ان يعيشوا في ذلك الوقت، بعبارات من قبيل “يا أخي، لماذا تعقّد الأمور، هذا هو ناموسنا منذ مئات الأعوام، فلماذا تتفلسف في شرح معانيه ومضامينه. خذ الأمور ببساطة!”. ويمكننا النَّسج على هذا المنوال في الفصلين التاليين من الموعظة على الجبل، ومن ثمّ باقي الأناجيل والعهد الجديد. فلا أريد الإطالة في بحث كلّ العبارات ومدلولاتها. إلا ان وجدت ضرورةً لذلك في المستقبل.
يسوع، يا أحبّة، لم يكن “بسيطاً” بالمعنى الذي يريد بعضهم أن يفهم “البساطة”. بساطة يسوع من نوعٍ آخر، هي بساطة الأطفال المتواضعين، وبساطة الإنسان النقيّ القلب، الذي لا يتكلّم بالملتويات ولا يضمِر الشرّ لأحدٍ، ولا يظنّ السوء بأحد (ويا ليتنا نكون مثله). هي بساطة من كان ينظر فيتحنَّن ويحبّ ويشفي. أما إذا أردنا ان تكون “البساطة” سطحيّةً وكسلاً وإهمالاً لأيّ كلمة أو نقطة من كلام الكتاب المقدَّس، فلا، يسوع عندها ليس “بسيطاً” أبداً، بل هو معقَّدٌ، وشديد التعقيد أيضاً.
وعلى هذا سنرى مستقبلاً كيف تؤثِّر نظرتنا للإنجيل بهذه الطريقة، على اهتمامنا بدراسة الكتاب المقدَّس بأدقّ تفصيل وخاصّة فيما يعلِّمنا عن نظرتنا للعالم، واستشرافنا لخطّة السيِّد الرّب لأمم العالم.