بقلم فادي أبو ديب
من طبيعة الإنسان أنّه يظنّ مخطئاً أنّ مصائب الدّهر ونوازله هي أمورٌ تصيب الآخرين، ولا يمكن أن تقترب منه، معتبراً أنّ ظرفه مختلف. ورغم أن البشر برعوا في تأليف الأمثال الشعبية حول هذا الموضوع من قبيل “ما طار طيرٌ وارتفع إلّا كما طار وقع” أو “لو دامت لغيرك ما وصلت لك”، إلاّ أن قلّة قليلة جدّاً هي من تسلك فعلاً بحسب هذه الأمثال أو السُّنن الكونية. وحوادث تونس الأخيرة التي أنهت حكم الرّئيس التونسي زين العابدين بن علي، هي خيرٌ دليلٍ على هذا. فمن كان يتوقّع (لولا بعض تسريبات ويكيليكس في الفترة الأخيرة) أنّ إحدى أكثر الحكومات استقراراً في المنطقة العربية والإفريقية سوف تسقط بهذه الطّريقة المفاجئة والسريعة والدراماتيكية؟! ورغم أنّ ما حصل في هذا البلد قد حدث عشرات المرّات في كثيرٍ من البلدان في العقود الماضية، إلّا أن هذا هو الإنسان وهذا هو فِكره الذي لا يعتبر من العِبَر. فكلّ عظيمٍ أو صاحب سلطة يظنّ أن وضعه مختلف، وأنّ ما حدث لغيره لن يحدث له.
يقدِّم لنا الكتاب المقدَّس من خلال رواياته العديدة المفهوم الحقيقي للسُّلطة في هذا العالم. وتلخِّص لنا قصة دانيال مع الملك بيلشآصَّر البابليّ المبدأ الذي يتعامل به الرب مع المتسلِّطين الذين يسمح لهم بأخذ سلطةٍ ما في هذا العالم. فيسرد دانيال قصّة نبوخذنصَّر للملك بيلشآصَّر من وجهة نظر إلهية، فيقول له:
“… الله العلي أعطى أباك نبوخذناصّر ملكوتاً وعظمة ًوجلالاً وبهاءً. وللعظمة التي أعطاه إيّاها كانت ترتعد وتفزع قُدّامه جميع الشعوب والأمم والألسنة. فأيّاً شاء قتل، وأيّاً شاء استحيا، وأيّاً شاء رفع، وأيّاً شاء وضع.” (دانيال5: 18و19)
من المؤكَّد فإنّ بيلشآصر كان يظنّ أنّ نبوخذنصَّر، فخر الإمبراطورية البابلية (الكلدانية)، هو من حصل بقوّته على كلّ ذلك الجبروت والنُّفوذ. وهذا للأسف حال كلّ عظماء الأمم الذين يظنّون أنهم هم الآمرون النّاهون، غير متأدَّبين من حوادث التاريخ القديم والحديث. والحوادث التي نراها في عالم اليوم ونسمع عنها تدلّ على أن “رئيس سلطان الهواء”، إبليس، ما يزال يعمي أذهان المتسلِّطين والقادة والجبابرة، كما فعل قديماً مع نبوخذنصَّر، الذي لم يمجِّد ربّ السماوات والأرض، فاغترّ وتكبَّر كما يروي دانيال عنه لبيلشآصَّر حيث قال:
“فلمّا ارتفع قلبه وقست روحه تجبُّراً، انحطّ عن كرسيّ ملكه، ونزعوا عنه جلاله، وطُرِد من بين الناس، وتساوى قلبه بالحيوان، وكانت سكناه مع الحمير الوحشية فأطعموه العشب كالثيران وابتلّ جسمه بندى السماء، حتى علم أنّ الله العليّ سلطان ٌفي مملكة الناس وأنّه يقيم عليها من يشاء.” (دانيال5: 20و21)
كما أسلفنا، فإنّ دانيال يكرِّر التاريخ الذي لا بدّ أن بيلشآصَّر يعرفه جيّداً، ولكنه في هذا المرّة، يروي القصّة ليؤكِّد مرّةً أخرى على وجهة النظر سماوية في تفسير الأحداث. فالبشر يرغبون دائماً في إعطاء أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية للأحداث العالمية التي تحصل حولهم. وإذ كانت هذه التعليلات فيها شيءٌ من الصِّحّة، إلا أنها لا تتعدّى كونها عللاً ثانويّة، يستخدمها الرب أو ربّما يفتعل بعضها، فنحن لا يمكننا أن نعرف بالضبط، لأنه كما علت السماء عن الأرض هكذا علت أفكار الرب عن أفكارنا وطرقه عن طرقنا (إشعياء 55). ولكننا نعلم أن لا شيء يخرج عن الإرادة الإلهية وسيادتها المطلقة. وإحدى أهمّ مشاكل البشرية والكنيسة اليوم هي أنّها ما تزال ترفض تصنيف الكثير مما يحصل في العالم على أنّه دينونات إلهية (ربماً خوفاً من أنو توصم بالتحجُّر).ولعلّنا نتذكَّر قول الرب يسوع المسيح بأن العصفور الصغير الذي يُباع بشكل شبه مجّاني ليس منسيّاً أمام الرب (لوقا12: 6)، فكم بالحريّ إذاً هي سلطة الإله العظيم يهوه على الأمم وملوكها إن كان لا ينسى أن يطعم هذا الظائر المسكين الذي بالكاد يساوي أجزاءاً من الفِلس.
إذاً فدانيال يوضِّح تماماً أن سبب ما حصل لنبوخذنصَّر هو كبرياؤه الأعمى وتعنُّته الأحمق. وهو بسرد هذه القصّة يمهِّد السبيل أمام إعلان دينونة الرب على بيلشآصَّر نفسه من خلال رؤيا اليد التي تكتب على الحائط، التي رآها هذا الأخير. لذلك يتابع دانيال في نفس السياق فيخبر الملك بشجاعة:
” وأنت يا بيلشآصَّر ابنه لم تضع قلبك مع أنك عرفت كل هذا، بل تعظَّمت على ربّ السماء، فأحضروا قدّامك آنية بيته [بيت الرب أي الهيكل]، وأنت وعظمائك وزوجاتك وسراريك شربتم بها الخمر، وسبّحت آلهة الفضّة والذّهب والنحاس والحديد والخشب والحجر التي لا تبصر ولا تسمع ولا تعرف. أمّا الله الذي بيده نسمتك وله كل طرقك فلم تمجِّده. حينئذ أرسل من قِبَلِه طرف اليد فكتبت هذه الكتابة.” (دانيال5: 22-24)
وهكذا أعلن دانيال دينونة الرب على بيلشآصّر وهي “مَنا مَنا تقيل وفرسين” (دانيال5: 25)، “وهذا تفسير الكلام، مَنا: أحصى الله ملكوتك وانهاه. تقيل: وُزِنت بالموازين فوُجِدت ناقصاً. فرس: قسمت مملكتك وأعطيت لمادي وفارس” (دانيال5: 26-28)
كم يتجبَّر الكثير من قادة الأمم والشعوب وكثيرٌ أصحاب السُّلطة الدينية، حتى يظنّون بأنّ سلطانهم هو الأعلى، متناسين أنّ هناك إلهاً سيدينهم على هذه الأرض متى اكتملت ذنوبهم، قبل أن يدينهم نهائياً في اليوم الموعود! وحتّى فإن أدركوا وجود الرب الإله فإنهم يكرِّرون خطأ من قالوا قديماً: “كيف يعلم الله؟ وهل عند العليّ معرفة؟” (مزمور73: 11) فهؤلاء كأولئك سوف يصيرون للخراب بغتةً ويضمحلّون (مزمور73: 19).
إلّا أن الكارثة الحقيقية تحصل حينما يتقاعس بعض المسيحيين ويتّخذون موقفاً نفعياً، ولا يقومون بواجبهم النبويّ كنذيرٍ لكلّ متجبِّرٍ. فكم هي الكنيسة بحاجةٍ لأن تقف موقف النبيّ دانيال حين واجه بيلشآصَّر بشجاعةٍ، محرجاً إيّاه بقوّة، بعدما وعده هذا الأخير بثياب الأرجوان والذّهب، والتسلُّط ثالثاً في المملكة، فقال له: “لتكن عطاياك لنفسك وهِب هِباتك لغيري” (دانيال5: 17). حيث لم يعتبر دانيال أنّه بوصوله إلى هذه الرُّتبة سوف يمجِّد الرب، لأنه علم أنّ الملك كان يحاول شراءه بهذه العطايا. وعلى هذا القياس، كم يخطئ كثير من المسيحيين عندما يغترّون بعطايا الملوك، فبدل أن يوبِّخوهم ويعلّموهم وينذروهم بالدينونة، يقومون للأسف بالالتصاق بهم. وفي الحقيقة فإن من يفعل هذا سوف يشرب من نفس كأس الدينونة التي سيشرب منها ملوك الأرض في ذلك اليوم العظيم، حينما يصرخ الملاك داعياً جميع الطيور قائلاً: “هلمّ اجتمعي إلى عشاء الإله العظيم، لكي تأكلي لحوم ملوكٍ، ولحوم قوّاد، ولحوم أقوياء، ولحوم خيلٍ والجالسين عليها، ولحوم الكلّ: حرّاً وعبداً، صغيراً وكبيراً” (رؤيا يوحنا19: 17و18). فالصوت السماويّ المسموع في سفر الرؤيا ما زال يدعو اليوم شعب الرب إلى الخروج من كل منظومة عالميّة تهين الرب، قائلاً: “اخرجوا منها يا شعبي لئلا تشتركوا في خطاياها، ولئلا تأخذوا من ضرباتها” (رؤيا يوحنا18: 4).
مرّةً أخرى، على الكنيسة المسيحية، التي هي جسد الرب، أن تتنبّه إلى ما يحدث في العالم، وأن تعلم جيّداً ويقيناً أنّ كل ما يحصل ليس سوى تهيئة المسرح لنظام عالميّ مضادّ للمسيح، سيبيده الرب في النهاية، هو وكلّ من يشترك في خطاياه ونجاساته، وسيقول لهم ربّما “مَنا مَنا تقيل يهوه إيلوهيم يا ملوك الأرض!”، الذي تفسيره: أحصى الرب ملكوتكم وأنهاه لأنكم وُجِدتم ناقصين في موازينه، لذلك سيعود المُلك إلى يهوه الإله يا ملوك الأرض.
“من له أذنان للسمع فليسمع”
ماران آثا