بقلم فادي أبو ديب
(لقراءة الجزء الأول…من هنا)
أجرؤ على الادّعاء بأن كل من يزعم بأن يسوع المسيح كان بسيطاً في تعليمه، هو إمّا أنه يتحدّث بسطحيةً عن يسوع الذي قد يكون قرأ بضعة أشياء عنه هنا وهناك، أو أنه يتحدّث عن “يسوعٍ آخر” من صنع المخيِّلة الشعبية والدينية التقليدية. ولكن في كل الأحوال فإن مثل هذا الزَّعم ينمّ عن جهلٍ مخيفٍ بالإنجيل وبتعليم يسوع الناصري. وفي الجزء الأول من موضوعنا مررنا على بعض النقاط في تعليم يسوع المسيح، ولا ريب في أن تلك كانت “أبسطها”، إن جاز لنا استخدام هذه الصفة هنا!
ومن خلال تأمّلنا في مقاطع أخرى من الأناجيل سنكتشف أن يسوع كان في الحقيقة “أكثر تعقيداً” مما يريد البعض أن يكونه. وأذكِّر بأن صفة التعقيد لا تعني هنا استحالة الفهم وضرورة وجود إمكانيات خارقة من الذكاء والفهم، وإنما أقصد بأنها تشير إلى حاجة المرء إلى الوقوف طويلاً وبتواضع أمام الكلمات الخالدة التي نطق بها يسوع، وضرورة تأمّلها واختبارها في كلّ لحظات الحياة، وبدون هذا لا يمكن أن نفهم عبارة بولس التي يقول فيها أننا يجب أن نختبر آلامه وقوة قيامته.
يسوع ونيقوديموس:
إذا تأمّلنا في بدايات إنجيل يوحنا فسنلحظ كثيراً من النقاط المثيرة التي ليس لها أية علاقة بالبساطة المدّعاة. فابتداءاً من الفصل الثالث نرى يسوع يدخل في جدليّة الولادة الرّوحية مع نيقوديموس، وهو واحدٌ من أكثر معلّمي إسرائيل نفوذاً وعِلماً. ومن الواضح بأن هذا الأخير وجد صعوبةً في فهم ما كان يرمي يسوع إليه. قد يستسهل البعض الإجابة ويقول بأنه كان أعمى القلب، ولكن هذا ليس سوى هروب من الحقيقة. لقد اتى نيقوديموس إلى يسوع وهو راغبٌ كلّ الرّغبة في المعرفة الحقّة، فلا يمكن لمن في مركزه أن يحتمل مخاطر الاتّصال بيسوع الناصريّ، المطلوب الأول عند رؤساء الكهنة، إلا إن كان جادّاً كل الجِدّ في مسعاه. وببساطة فإن يسوع لم يكن يتكلّم “ببساطة” أبداً. لقد قدّم تصريحات عميقةً جدّاً، فقد تحدّث عن الولادة التي من فوق، وعن الابن الذي في السماء الذي نزل وصعد من السماء وإليها، والولادة من الماء والرّوح، والتي لم يكن سيتمكّن من فهمها إلا من فهم تفاصيل تعبيرات العهد القديم حول الماء والروح (حزقيال36). كلام يسوع هذا استجرّ ردّاً غريباً من نيقوديموس الذي أجابه “كيف يمكن الانسان أن يولَد وهو شيخ. ألعلّه يقدر أن يدخل بطن أمه ثانيةً ويولَد” (يوحنا3: 4).وسواء كان هذا التساؤل صادقاً أو من نوع الاستغراب الساخر، فإنّه في الحالتين ينمّ عن عدم قدرة واحد من أكبر خبراء الكتاب المقدَّس حينها من فهم معنى كلمات يسوع مباشرةً. وهنا لا يمكننا إلا من استغراب موقف من يدّعي اليوم بأن يسوع كان بسيطاً، وأنّ كل تعليمه هو بمتناول الجميع بدون الحاجة لـ”فلسفة زائدة”!
يسوع والسامرية:
بالانتقال إلى الفصل الرابع تطالعنا قصة يسوع مع المرأة السامرية عند بئر يعقوب، وإن كان من “بساطة” في هذه القصة، فهي بلا شكّ في فهم وإدراك هذه المرأة فقط لا غير! فبعد أن طلب منها يسوع ماءً ليشرب واستغرابها من طلبه (على اعتبار أنه رجل يهودي يطلب من سامريّة)، يبادرها يسوع مباشرةً بإجابته: “ لو كنت تعلمين عطيّة الله ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبتِ أنت منه فأعطاكِ ماءً حيّاً.” (يوحنا4: 10). لقد أتاها يسوع مباشرةً “من فوق”، فهو لم يقل لها “سأحلّ مشاكلك العائلية” أو “سأعلّمك تعليماً جديداً”، بل نقلها مباشرةً إلى “الماء الحيّ”. طبعاً لا يجب أن نستغرب أبداً ردّ فعل المسكينة التي أجابته: ” يا سيد لا دلو لك والبئر عميقة فمن أين لك الماء الحيّ. ألعلك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر وشرب منها هو وبنوه ومواشيه؟!” فهي لم تقترب أبداً من القصد الذي كان يريد لها يسوع أن تفهمه. إلا أنه يكمل حديثه فيقول: ” كل من يشرب من هذا الماء(يقصد الماء الطبيعي) يعطش أيضاً. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد، بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة ابدية.”.ومرّةً أخرى نجد بأنّ المرأة لم تفهم بتاتاً ما هو “الماء” الذي يعطيه يسوع، ولا كيف أنّ من يشربه لا يعطش إلى الأبد، ولا كيف ان من يشربه سيصير فيه هو ينبوع ماءٍ حيّ ! ومع عِلم يسوع الأكيد بأنها لن تفهمه كما لم يفهمه نيقوديموس، إلا أنه لم يستعمل “البساطة” التي يريد الكثيرون أن يفهموها في يومنا هذا. فكلّ ما يمكن لها أن تفكِّر فيه حينها بئراً او ينبوع مياه عذبة يريحها من عناء الذهاب بعيداً لجلب المياه، فتعود لتجيبه: ” يا سيّد أعطني هذا الماء لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي”! مرّةً أخرى كما فعل مع نيقوديموس لم يفسِّر لها يسوع أقواله، ليس لأن ما قاله “بسيط” وسهل، بل لأن أقواله هذه لا تُفهَم فقط بالتفسير. فكيف ستشرح لظمآنٍ كيفية الشُّرب من مياه نبعٍ يترقرق أمامه؟! هل ستعلِّمه كيف يضع يديه ويحني ظهره للشُّرب؟ أم ستتركه لعفويته الحلوة تعبِّر عن ذاتها عندما يترك نفسه لينغمر بالماء كما لو أنه يسافر إلى عالمٍ آخر؟! وهل نحن بحاجة لمن يخبرنا عن اهمية الماء عندما نعطش؟ ام أننا نحسّ بتلقائية بحاجتنا الماسّة لإنعاش أجسادنا؟ وهل الارتواء شيءٌ يُعلَّم أم أنه خبرةٌ تُعاش؟! هكذا كانت كلمات يسوع بحاجة لمن يدعها تخترقه ومن ثمّ يختبرها في روحه وحياتها، عندما ترافقه يوماً بعد يوم، فيفهمها في كلّ يوم بشكل أفضل إن هو اتّحد معه في آلامه ومعاناته. فحياة تشبه تلك التي عاشها يسوع ليست بسيطة، بل هي مليئة بالألم، ألم الوحدة والغُربة في عالمٍ يختلف جذرياً عن عالم يسوع المسيح، فيسوع لم يحسِّن الخلاق فحسب كما يظن البعض من مسيحيين وغير مسيحيين، بل خلق عالماً جديداً في نفوس تلاميذه هو عالم الحياة الأبدية وملكوت الله الذي يبدأ هنا في هذه الحياة. فالحياة في ومع يسوع المسيح هي التواجد الجسدي في هذا العالم ولكن ضمن بُعدٍ وجوديٍّ آخر ومختلف تماماً. وهذا ليس “بسيطاً” تماماً ولا يمكن اختباره ببساطة أبداً، وليس هو في ذات الوقت “تقنية صعبة” يمكن الوصل إليها بممارسة بعض الألاعيب كاليوغا وغيرها، بل هو حياة كاملة في هذا العالم ضمن قيم ذلك البُعد الوجودي الآخر، ويالها من رحلة! رحلة لا يمكن لأحد أن يعلِّم أحداً آخَرَ تفاصيلها، لا مؤسسة ولا هيئة ولا رجل دين ولا كاهن، يمكن لكل واحد أن يطلب الإرشاد ولكنها تبقى رحلته هو، ليتعلّم فيها عن الناصري ومملكته.
في هذا السياق يجب الحديث أيضا، وبشكل مختصر، عن مفهوم علاقة المسيحي بالعالم، والذي لا يمكن لأحد ان يدّعي أنه كان “بسيطاً”. وهذا ما سنراه في الجزء القادم عن يسوع وتعليمه الانفصالي عن العالم.