الإنسانية: الذاكرة المفقودة


بقلم فادي أبو ديب

(نُشِرت سابقاً في موقع صافيتا ون ومدونة يسوع مخلِّص العالم)

– …الطبيعة في هذه الدنيا تمتزج بالحبّ الإلهي
وبعض الأزهار المتشابكة من بُعد
والكل ينصهر بالشِّعر…
– يا سيدي الكريم، إنّي لا أفهمك.
– ألم ترتقِ البتّة بالذكاء حتّى الدين؟
إذ أعتقد أن الحبّ الحقيقي المتفتّح هو هناك
الطبيعة طبيعية على الدوام
كذلك أنا، فإني شبه مصطنع…
أصوغ من كلّ شيء ديناً
وأتربّع في نهاية المطاف فوق عرشٍ محشوّ
لودفيج تييك

هل فينا من لم يشعر بذلك التوق الضاغط والعذب في آنٍ معاً، وهو يتنامى في فؤاده، من بعد أن تنسّم أول ريح لتفكك الجليد في السنة، أو تلك الزفرة الباخوسية التي يطلقها الشتاء وهو يلفظ أنفاسه؟

ريكاردا هوخ


يخبرنا الكتاب المقدس في الإصحاح الأول من سفر التكوين عن قصة خلق العالم، وبالتحديد، فإنه يذكر لنا الملامح الرئيسية لعملية الخلق هذه. فقد ابتدأ الرب بخلق النور والسموات والأرض، ومن ثم خلق الكواكب والأجرام السماوية، ومن بعدها يبدأ الرب بصنع تحفه الحيّة من أشجار ونباتات وحيوانات. ونلاحظ هنا أن الرب يخص هذه الكائنات ببركة كبرى حين يأمرها بالتكاثر والنمو. عند هذه النقطة يتخذ الرب خطوته الكبرى بخلق الإنسان، تاج الخليقة وسيدها، وقد كوّنه الرب وشكّله على صورته الأدبية والروحية، مليئاً بالمشاعر والأحاسيس، منطلقاً نحو الإبداع والعمل، صديقاً للطبيعة وكلّ ما هو جميل. وجعل مسكنه وعمله بين خليقته الحيّة التي أبدعها ونفخ فيها نسمة الحياة. فقد قال الله: ” نعمل الانسان على صورتنا كشبهنا. فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الارض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الارض. فخلق الله الانسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وانثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم اثمروا واكثروا واملأوا الارض واخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدبّ على الارض. ” (تكوين 1: 26-28)
نجد إذاً أن بركة الإنسان كانت متبوعة مباشرة بالعيش وسط خليقة الله التي رأى خالقها أنها “حسنةٌ جداً”. كما أن الرب الإله عيّن للإنسان وسيلته للحصول على طعامه، حين قال “إني قد أعطيتكم كل بقل يبزر بزراً على وجه كل الارض وكل شجر فيه ثمر شجر يبزر بزراً. لكم يكون طعاماً.” (ع29)
بكل تأكيد، فأنا لا أؤمن أن الرب قد أراد بهذا وضع “نظام غذائي” إلزامي (على الرغم من أن دراسات علم التغذية الحديثة تشير إلى أن البقول هي أفضل غذاءٍ صحّيٍّ للبشر)، ولكنه أراد للإنسان أن يعيش في وسطه الطبيعي، الذي هو خليقة الله الأخرى بكل أنواعها، لذلك نجد أنّ الله يترك لآدم فرصة المشاركة في تنظيم هذه الخليقة حين يأمره بالعمل في الأرض وحفظها، واللافت أنه يدعوه إلى تسمية الحيوانات “…فأحضرها الى آدم ليرى ماذا يدعوها. وكل ما دعا به آدم ذات نفس حيّة فهو اسمها.” (تكوين2: 19ب، ج)
لقد كان مقدَّراً للإنسان أن يسكن وسط خليقة الله، المصنوعة من تراب الأرض كما هو تماماً. فمن خلال الطبيعة المحيطة يحتفظ الإنسان بذكرى أصله، ناظراً على الدوام مجد الله السنيّ من خلال خليقته التي تظهر عظمة خالقها وأموره غير المنظورة وقدرته السرمدية (رومية1: 20)
لقد أدرك رجال الله منذ القديم عظمة الله ومهابته من خلال عيشهم في الطبيعة، وتأملهم في عجائبها، واندهاشهم لتنظيمها الدقيق المذهل، فنرى أحد المرنّمين الذي وإن طمس التاريخ هويته، لم يستطع أن يمحو كلماته الخالدة التي تمجّد الرب العليَ، فهو يراقب الخليقة من حوله مدهوشاً إلى درجة تدفعه إلى الترنّم ونفسه تفيض بالفرح والتمجيد:

” باركي يا نفسي الرب. يا رب إلهي قد عظمتَ جدّاً مجداً وجلالاً لبست.

اللابس النور كثوبٍ الباسط السموات كشقّة‎.

‎المسقف علاليه بالمياه الجاعل السحاب مركبته، الماشي على أجنحة الريح

الصانع ملائكته رياحا وخدّامه ناراً ملتهبة

المؤسِّس الارض على قواعدها فلا تتزعزع إلى الدهر والأبد‎.

‎كسوتها الغَمر كثوب. فوق الجبال تقف المياه‎.

‎من انتهارك تهرب من صوت رعدك تفرُّ‎.

‎تصعد إلى الجبال. تنزل إلى البقاع الى الموضع الذي أسَّسته لها.

وضعتَ لها تخماً لا تتعداه. لا ترجع لتغطّي الارض

المفجِّر عيوناً في الأودية. بين الجبال تجري‎.

‎تسقي كل حيوان البر. تكسر الفراء ظمأها‎.

‎فوقها طيور السماء تسكن. من بين الأغصان تسمع صوتاً‎.

‎الساقي الجبال من علاليه. من ثمر أعمالك تشبع الارض‎.

‎المنبت عشباً للبهائم وخضرةً لخدمة الإنسان لإخراج خبزٍ من الارض”
(مزمور104: 1-14)

لم يعرف هذا المرنّم الكثير عن قواعد العلم أو عن الدساتير التي تسير بموجبها الرياح، كما أنه لم يكن يمتلك هذا الكم الهائل من المصطلحات العلمية التي نمتلكها اليوم، ولم يعش كي يشهد اكتشافات الكون المذهلة التي تجثو أمامها الرّكب المخلَّعة، إلا أن الروح القدس وجد أن بساطته وإيمانه كافيان كي يشارك العالم بفرحته ودهشته عبر آلاف السنين القادمة.

كثيراً ما أغبط هذا المرنّم، وأعتقد أن كل إنسان مرهف المشاعر يشعر بنفس شعوري. فرغم أنّ إنسان اليوم يملك من التطور والتقنية ما لم يملكه بشرٌ من قبل. ورغم أنّه أصبح يعلم الكثير الكثير عن الطبيعة من حوله، إلا أنه، وللأسف، فقد كل ما يربطه بها. فـ”كائن المدن المكتظة” لا يمكنه اليوم أن يسمع صوت السموات وهي “تحدّث بمجد الله”، وهو لا يملك أصلاً أيّ لحظة كي ينصت إلى الفلك وهو “يخبر بعمل يديه”. أو يتوقف لكي ينخطف عندما تخترق جسده رائحة التراب بعد المطر، أو صفير الرياح وكأنها قادمة من الأزل، وهي تختلط مع صوت خرير المياه المهوب والأخّاذ. صحيحٌ أن هذه المصنوعات “لا يسمع صوتهم”، إلا أن رجال الله منذ القديم وحنى الآن، تمكّنوا من سماع همساتها التي كانت مدوّية في أرواحهم. ولكن اللإنسان مسكين، فقد انفصل لكي يعيش في مجتمع إلكتروني جهنّمي الصنع.
أعلم قليلاً عن التسميات التي يطلقها علماء الأنثروبولوجيا على إنسان اليوم، لكنني لا أحد اسماً مناسباً أكثر من “إنسان المدن الصناعية” أو “كائن المدن المكتظّة”، التي تقولب عقله، وتجمّد حسّه، وتبلّد روحه، وتضعف سمعه، إلى درجة جعلته غير قادر على الإحساس إلّا بهرمونات الموضة تغزو نفسه المريضة، و جعلته غير مؤهّل إلا لسماع الأصوات الإلكترونية.

لقد خلق الله الإنسان منذ البدء ليعيش وسط خليقته، ليتأملها ويخاطبها. وبعد أن مات ذاك الإنسان بسبب عصيانه، بقيت الخليقة تئن من حوله مذكّرة إياه بماضٍ سحيق، فقد الكثير من ملامحه، وهي تجاهد متألّمة تحت ضربات هذا الإنسان ذو الروح المتشرِّدة ، منتظرةً الوقت الذي فيه “ستعتق من عبودية الفساد الى حرية مجد اولاد الله.” (رومية 8: 21)
لقد فقدت الإنسانية ذاكرتها، وانفصلت عن محيطها، فلم يعد هناك مجالٌ للتخاطب، وتحولت الخليقة إلى مجرّد “موضوعات” علمية للدراسة فقط. انشغل الإنسان بنفسه، ومشاكله، وجشعه، ومخاوفه، وهواجسه، فنسي أن هناك خالقاً يهتم به. إذا تأملنا في الرب يسوع المسيح نجد أنه حاول أن يجعل الشعب يفهم الطبيعة من حوله لكي يفهم شيئاً ما عن الله، فنراه يتكلم عن زنابق الحقل، وطيور السماء، والعصافير الصغيرة التي تباع بفلوسٍ قليلة (متى6: 26-28، لوقا12: 27 ومتى10: 31). لم يعد الإنسان يستطيع أن يرى الله من خلال التنظيم الدقيق للخليقة، ومن خلال سلوك الحيوانات، ومن خلال روعة المصنوعات التي تفيض أشكالها وألوانها وأصواتها وعطورها محبّةً وسحراً إلهيين. لقد حاول الرب يسوع بكلمات قليلة أن يعطينا مثلاً في أهمية إعادة الانسجام مع خليقة الله. علّمنا أن نقرأ بعناية لغة الطبيعة التي تبقى العلامة الوحيدة للنقاء والبراءة.
إن الإيمان بالرب يسوع المسيح يمنحنا فوق ما نفتكر ونتصوّر، فالخلاص لا يقتصر على غفران الخطايا كأمر حالي ومستقبلي، بل يتعدّاه إلى الدخول إلى عالم الله الذي فقدناه في القديم، ملكوت السماوات. ويمنحنا عيوناً وآذاناً روحية تمكننا من رؤية الله من خلال مصنوعاته ونظامها الرائع الخلّاب، مما يجعلنا حقاً ندرك ولو جانب صغير من جوانب المحبة الإلهية غير المحدودة. ويعطينا امتياز أن نتأمل ونسجد أمام الجلال الإلهي الفائق.

فهل نستعيد ذاكرتنا المفقودة؟
وهل سنتعلم أن “حياة الاكتظاظ” هي وضع مؤقت ودخيل على خطة الله؟
كم هو مؤلم أن يعيش الإنسان حياته كاملةً، ثم يكتشف في نهايتها أن رحلته الوحيدة قد انتهت بدون أن يسبر أعماق خليقة الله المدهشة!

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.