الإنسانية: الذاكرة المفقودة- الجزء الثاني


بقلم فادي أبو ديب

(نُشِرت سابقاً في موقع صافيتا ون ومدوَّنة يسوع مخلِّص العالم)

 

قدّمت في مقالتي السابقة “الإنسانية: الذاكرة المفقودة” سؤالاً وأنا متوقِّعٌ إجابته. لقد طرحت السؤال التالي:
هل سنتعلم أن “حياة الاكتظاظ” هي وضع مؤقت ودخيل على خطة الله؟
أي هل سنتوقف لنتفكّر في انشغالنا الدائم وازدحام أيامنا واغترابنا عن إنسانيتنا، عن الطبيعة المحيطة بنا، وعن الأنسان الآخر؟
والحقيقة أن جواب البشرية، الذي لا يشوبه أيّ تردد، يصمّ آذاني وهو يصرخ: عماذا تتكلم يا هذا؟ وأي خطة وأي إلهٍ تتحدث عنه؟!
فهذا المنطق الذي أحاول من خلاله جمع بعضٍ من شتات أفكار بقايا الصورة الإلهية الممزقة في داخلي، هو منطقٌ غريبٌ عجيب بالنسبة لمنطق العالم الحاضر، الذي يتكلم بلغة المال والربح ومقدار الإنتاج. هذا المنطق العالمي الذي أصبح هو القاعدة، وغيره هو الشذوذ. أصبح هو العادي ووسم غيره بالجنون.

لقد فقدت البشرية وعيها الأصيل، والذي استمرت تمتلك بعضاً من آثاره حتى عصر ما قبل ثورة الاتصالات الحديثة في القرن العشرين. فهذه الثورة ورغم فوائدها الجمّة، إلا أنها أصابت الإنسان بجراحٍ خطيرة لن تندمل أبداً. فقد أصبح “تاج الخليقة” عبداً لآلات المتعة والتسلية، وأصبح يشعر بأن حياته لا يمكن لها أن تستمر بدونها، رغم أنه كان يسير حسناً قبل سنوات بدون حتى أن يعرفها أو يتخيّلها. فأصبح يعتبرها، سواء كان هذا من حيث المبدأ النظري أو الممارسة العملية، الجزء المركزي والأساسي من حياته، أما ما تبقّى فهو ثانويات يمكن له أن يستغني عنها. فاستبدل العلاقات الإنسانية والتواصل مع بني جنسه، بالمحادثات الافتراضية، التي وإن كانت بركة توفر له الاتصال بمن باعد بينه وبينهم الزمان والظروف، إلا أنها تحوّلت للحالة الطبيعية بعد أن كانت الاستثناء. كما أصبح التلفاز، مثلاً، وسيلة الإنسان البديهية لاكتساب المعرفة والخبرة والعلم، وهو المسكين لا يعلم أنه أصبح بفضل هذه التقنية عبداً ذليلاً، محوِّلاً دماغه إلى ما يشبه صندوق “الفرجة”، تاركاً الفرصة لمسؤولي وسائل الإعلام كي يقوموا بحشوه بما أرادوا من مفاهيم وعقائد ومبادئ وأفكار، معظمها لا يصلح للاستهلاك الآدمي.
لقد نجحت ثقافة العالم الحالية، ثقافة المعلوماتية ووسائل الاتصال، في إقناع الناس بأن حياتهم لن تستقيم أو تهنأ بدون أن يلاحقوا كل ما تنتجه التقنية. وأن سعادتهم الحالية والمستقبلية تكمن في زيادة مقدرتهم على متابعة الجديد وامتلاكه. لقد سقطنا في الوهم الأكبر وأصبحنا نظن حقيقةً أننا سنكون أسعد وأنجح إن تمكننا من حيازة هاتفٍ جوّال أحدث، أو حاسوب أسرع. وأصبح بعضنا يظن حقاً أنه من سادة المجتمع إن كانت قائمة الأصدقاء على برنامج المحادثة لديه أكبر، وأنه يبزّ عباقرة التاريخ بذكائه إن هو برع في إتقان ألعاب العوالم الافتراضية التي غزت عقول المراهقين والشباب، الذين أصبحوا يقضون في ممارستها الساعات الطويلة.
نعم، هذه هي التفاهة التي وصل إليها مجتمعنا وإنساننا “العصريّ”. هذا الإنسان الذي أصبح يقرأ عن حياة جورج وسوف بدلاً من جبران خليل جبران. ويتعمّق في تفاصيل حياة كل لاعب كرة قدم، بينما بالكاد يمكنه أن يخبرك الفرق بين سورين كيركيغارد وسارية السوّاس (وأمثالها شرقاً وغرباً). وثق بأنه بإمكانه ان يميز أية أغنية هابطة بعد أن تبدأ قرقعتها بلحيظات، بينما لا يستطيع أن يميّز الفرق بين مايكل أنجلو و مايك تايسون.

ما أكرم الله وما أعجب حكمته وقصده، حينما خلقنا على صورته. أشعر حقاً بالعجب عندما أتأمّل في هذه الإرادة في أن يجعل كائناً مخلوقاً آخر يتميّز بالإبداع والخلق، وأن يكون لديه الفرصة في أن يستمتع بالجمال، وأن يحِبّ ويُحَبّ. في أن يعيش في أرض غنّاء تعطيه بدون مقابل مادّي، وتسمح له بأن يمتّع ناظريه بجمالها وكائناتها بدون أن يدفع “رسم دخول”.
من ناحية أخرى، هل فكّرنا يوماً في النعمة الكبرى التي تكمن خلف وجودنا ضمن عائلات نعيش فيها؟ إنها بركة عظيمة في أن يكون لدينا شركة يومية مع أشخاصٍ نحبّهم ويحبّوننا، نشاركهم تفاصيلنا وأفراحنا وهمومنا ومشاكلنا. ما أبعد مقاصد الآب الذي أرادنا أن نختبر، ولو كلمحةٍ صغيرة، الشركة التي يعيشها من خلال الثالوث منذ الأزل وإلى الأبد !
أليس الترتيب الإلهي في كوننا جزءاً من مجتمع بشري نعمةً أخرى تناسيناها؟
لماذا لا ننظر إلى العلاقات مع الإنسان الآخر، أو كما يحبّ يسوع أن يسمّيه، القريب، كأولوية وفرصة لنختبر المحبّة المتبادلة؟

أعتقد شخصياً أن هذه الأسئلة أصبحت غريبة في هذا الزمن الذي يتخذ من الفردية إلهاً له، إلى جانب آلهة أخرى كثيرة. وأصبح الحديث في مثل هذه الأمور يبدو كالحديث عن اليوتوبيا الأفلاطونية، أو قارة أتلانتيس المفقودة. وفي أفضل الأحوال، يُنظر إليها كمثاليات جميلة، قد تستأهل التفكير في لحظة حلم هامشية خلال العطلة الأسبوعية، إن وُجدت.
العالم اليوم لا يقدّر العلاقات الإنسانية حق تقديرها، لأنه ببساطة لا يقدّر الإنسان، إلا كرقمٍ إضافي في ماكينة الإنتاج والاستهلاك المجنونة، التي يظنها مستمرّة للأبد. نعم، فهذا هو عصر حكم الآلة لكل نواحي الحياة، والقادم أعظم! إنّ الفرد في هذا الزمن، وبكل وضوح لا يقبل الجدل، فقد الهدف من وجوده واختصره بأهداف مادّية آنية تتلخّص في المتعة والترف. وفي أكثر الأحوال تواضعاً، لخّص كل هدفه في وظيفة جيدة جاعلاً مركز حياته يدور حول ما ستدرّه عليه من أموال.
برأيي الشخصي فإن التقدّم التقني الحالي، في العديد من جوانبه، هو دليلٌ ساطع على الهروب الواعي أو اللاواعي للعقل البشري من التفكير بالأمور الأكثر أهمية المتمثّلة في معنى الحياة وقصدها والهدف منها. وكأن الإنسان من خلال “حياة الاكتظاظ” الآنفة الذكر يلهي نفسه، كطفلٍ صغير يسدّ أذنيه، مصدراً أصواتاً غير ذات معنى لمجرّد عدم رغبته في سماع توبيخات أبيه وأمّه.
يتحدث الكاتب الإنجيلي المميز فيليب يانسي عن هذا الموضوع بإسهاب، عندما يذكر في كتابه “إشاعات من عالم آخر” الشاعر والراهب الهدوئي توماس ميرتون، الذي لاحظ اتجاه الحياة الحديثة الموجّه نحو الهروب من الله، فاتخذ قراره بالهروب إلى الله في أحد الأيرة ناذراً الصمت. ويقول ميرتون عن هذا:
” كل شيء في حياة المدينة الحديثة محسوب لإبعاد الإنسان عن الدخول إلى ذاته والتفكير في الأمور الروحية. وحتى في أفضل النوايا، فإن الإنسان الروحي يجد نفسه مرهَقاً ضعيفاً متعَباً بسبب الضوضاء المستمرة للآلات والميكروفونات، والهواء الملوَّث، والأضواء الساطعة للمكاتب والمتاجر، والإغراءات الدائمة للإعلانات والدعاية.”
ويتابع يانسي شارحاً عن حياة ميرتون في ديره في ولاية كنتاكي بأنه “فيما كان جالساً تحت أشجار دير جثسيماني، يتأمل السحب الهادئة والسماء الداكنة، كان مجرّد مرور طائرة نفاثة فوق الأرجاء يبدو كشيء غير مقبول.”
وبالفعل فقد أصاب ميرتون كبد الحقيقة، فكل أبعاد النشاط البشري تبعد الإنسان عن وعيه لذاته، فمن الطفل في المدرسة التي تعلّمه أن يبتعد عن داخله ليرضي متطلّبات العالم الخارجي، إلى الشاب الذي يدخل الجامعة وهي المؤسسة التي يقول عنها فرانسيس بايكون أنها تنزع بالأذكياء إلى السفسطة والتصنّع والمغالطة، إلى ثقافة العمل المجنونة التي لا ترحم، ، إلى حسابات الزواج تأسيس العائلة التي اتخذت في كثير من الأحيان منحىً بغيضاً، يقوم على المصلحة المشتركة وليس على المحبة الصافية (والتي يختلف الخبراء بشأن انقراضها!)، وهكذا نرى أن الحياة في عالم اليوم تلهي الإنسان عن وعيه لنفسه ولمن هم حوله وللعالم، دافعةً بهؤلاء جميعاً إلى أدنى مراتب اهتمامه طوعاً أو قسراً، ومانعةً إيّاه من تكوين صورة متكاملة محيطية لهذا العالم وقصده واتجاهه الحقيقي.
أجل، في هذا العصر لم تعد للقصيدة تأثيرها، ولا للوصية ثمنها، ولا للحقيقة سحرها. فقد رحل داود، وغاب سليمان، ولم يعد يدخل بولس إلى الآريوس باغوس. إنه عصر الفردية التائهة والبهائمية المقنَّعة بالعلم المادي.

في هذا العصر لم نعد نسمع بيتهوفن وموتزارت وتشايكوفسكي وباخ وهاندل، فقد أصبح لدينا السوبر كمبيوتر والبرمجيات التي تغني عن كل الفرق الموسيقية، والتي تحوّل أي متعرٍّ أو متعرّية إلى فنان الكون الأعظم خلال ساعات.
في هذا العصر لم يعد المناضلون يشبهون مارتن لوثر كينج والمهاتما غاندي ونلسون مانديلا، بل أصبح هناك الانتحاريون وحاملو القنابل والأحزمة الناسفة.
هذا العصر لم يعد يحتمل أيضاً وجود مارتن لوثر وجون كالفن أو حتى كيرلس لوكارس (*) . فلم نعد نرى نهضات تغيّر واقع الشعوب والأمم، لأنه لم يعد هناك بولس والذهبي الفم وجون ويسلي وكولومبا وسانت باتريك ودوايت ل. مودي.
اهلاً بنا وبكم إلى عصر المادة والفلسفة الأداتية. عصر الآلة والعقول المغيَّبة، والعلم المبطَّن بالجهالة والتحجُّر، حيث أصبح العلم يستوعب الحماقة ويصدّق عليها راضياً مسروراً.
لم يعد هناك من داعٍ لأن تفكِّر، لأن الآلات تفكّر عنك. ولم يعد هناك من سبب كي تثور على واقعك لتغيّر نفسك، لأنك إنسانٌ “رائع” و”كامل”! ولأن الحياة الهانئة لا تعدو كونها سلعة جديدة تشتريها من تاجرٍ جشع!

 

(*) كيرلس لوكارس هو بطريرك القسطنطينية في بدايات القرن السابع عشر، حاول وببطولة إدخال الإصلاح إلى كنيسته، ولكنه قُتِل بالتآمر بين بعض السياسيين ورجال الدين وتم رمي جسده في البحر.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.