بقلم فادي أبو ديب
كم هي عميقة الأمور المختصّة بالقلب! وكم هو صعبٌ فهم ووصف دقائق تلك الأحاسيس، لا بل ذلك العالم، الذي يُدعى الحبّ؟ الحبّ، تلك “الديانة” التي يمارس كلّ الناس طقوسها، الصغير والكبير، الشابّ والكهل، الصبيّة والمرأة، البدائيّ والمتحضِّر. الحبّ هو ذلك الدافع الذي من أجله مات الكثيرون، هو تلك الطاقة الهائلة المرعِبة التي دفعت العديدين لتجاوز المستحيل وهزيمة أقسى الظروف وما كان يُسمّى بالحقائق. الحبّ هو الذي دفع يسوع الناصريّ للموت راضياً في واحدة من أقسى وأغرب الحوادث التي مرّت على تاريخ البشرية على الإطلاق.
يبدو أنّ الحبّ هو أوّل مفهوم يتمّ نسيانه كلّما ازداد البشر تقدُّماً(؟). الحبّ اليوم شيء نادر جداً، شيء مطلوب ولكن منبوذٌ جداً، محبوبٌ ولكن مخيفٌ جداً، لأن الحب يتطلّب اتباعاً للقلب، وإيماناً بالأحاسيس، واعتبار التضحية حقيقةً لا مفرّ منها. من يريد أن يضحّي اليوم بألوان العالم وأضوائه؟! من المستعدّ لترك بعض الأمجاد (الصغيرة حقّاً) من أجل بعض المشاعر، كما برع بعض من يدّعون العقلانية في تسميتها؟! هذه هي الرومانسية، أو بالأحرى هذه هي الحياة. الرومانسية ليست غرقاً في الأحلام أو مجرّد استسلام لبعض المشاعر الحارقة. الرومانسية هي إيمانٌ بأن الحقيقة تكمن في القلب، وفي الروح الأقدس. وبأن المشاعر الأصيلة والنقيّة هي الواقع، وبأننا نحن من يجعلها واقعاً، فلا حتميّة يمكن أن تجبرنا على أيّ شيء. والرب كما أفهمه أعطانا هذه المشاعر النقيّة كعلامة لإرادته، كلّما قرَّبتنا تلك المشاعر من عيش حياةٍ تشبه تلك التي عاشها هو. الرومانسية إذاً ليست وجهة نظرٍ في الحياة، بل هي الطريقة الأسمى في الحياة. هي أسلوب كل من لم يفقد بعد أرقى مناحي إنسانيته. هي ليست مذهباً بل حقيقة مُعاشة. هي تحدّي كل الأمور العقلانية في سبيل تقديس وإنماء تلك البِذرة الإلهية التي منحها لنا الخالق مجّاناً.
كثيرٌ من المجتمعات اليوم لا تعترف بالحبّ، لا بل تهزأ به وتذلّه وتتندّر برواياته وبسرد قصص “مجانينه”. الكتاب المقدَّس ذاته كرّس سفراً كاملاً لقصائد الغَزَل والعشق، إلا أن البشر في بعض الأماكن في هذه الأيام أصبحوا كما يبدو “أكثر رقيّاً” من هذه الأمور!
ألا تلاحظون أن حياتنا أصبحت سيئة ومأساوية فيما يتعلّق بموقفنا من القلب وما يقوله، ونحن في كلّ يوم نجاهد ونقاتل لكي نقتات على فتات الحبّ هنا وهناك؟ كلّنا خائفون، متوجِّسون، من الحياة وما يُسمّى بقوانينها، تلك الأشياء المحنَّطة، التي وضعناها نحن أنفسنا فحبسنا أنفسنا داخلها. نحن مدعاةٌ للضحك والبكاء في ذات الوقت. لدينا كل إمكانيات الفرح والسعادة، ولكننا نسمح للتوافه بأن تشغلنا. تبّاً لعقولنا نحن البشر!
فما الذي يمكنه في هذا العالم أن يعوِّض عن ذلك الشعور الغامض الحارق، الجميل الغريب، عندما يتلاقى حبيبان؟ أيّ عقلانيةٍ نجسة في هذه الدنيا يمكن أن تحلّ محلّ ذلك الفيضان الهائل عندما تتلاقى عينان وتتحدّثان آلاف الكلمات في لحظاتٍ قليلة، وعندما يتفاهم قلبان، وعندما تسري في أجسادنا تلك الحرارة الحلوة النقيّة البريئة العَذبة كعذوبة نبع ينبثق أعالي الجبال؟ أيّ تفسيرٍ أو تبريرٍ عديم الأخلاق يمكن أن يجيب على سؤال شابّ أو شابّةٍ حُرما تلك المتعة الإلهية، متعة أن يختبرا أن يسيرا بجانب من يحبّان وقلوبهما تخفق بفرحٍ وشوقٍ ووجدٍ، وكلّ ذلك الحِرمان لسبب تافهٍ؟ أي إجابةٍ معدومة الضمير والإنسانية ستشفي غليل سائلٍ محطِّم الذات وهو يسأل عن سبب حرمانه من حقّ مُعطى له شرعاً وأخلاقاً، في حياة لن يعيشها سوى مرّة واحدة؟! أيّ كتب عن علم الأسرة ستعلِّم زوجةً كيف ستتوّرد خجلاً أو تشعر بذلك الارتجاف الغامض عندما تُلمَس، وهي تعيش تعيسةً جامدة المشاعر لأنها ضحيّة مجتمعٍ “يهتمّ بها”- وهو بالفعل لا يأبه إلّا لنفسه وبروتوكولاته، أراد لها أن تعيش مع رجلٍ لا تحبّه ؟! إنها لمأساةٌ حقيقيّة عندما نجرّب مجرَّد التفكير في أنّ ملايين الزَّوجات في المجتمعات المتخلِّفة موجودون في بيوت رجالٍ لا يملكون تجاههم إلا مشاعر الاعتياد، وأنّ ملايين الشبّان والأزواج ارتبطوا بمن لا يملكون تجاههنّ سوى مشاعر “أحسن من لا شيء” أو “أفضل من البقاء وحيداً” أو “هذه هي من ستكمل سعادتي بمجموعة الإكسسوارات المعيشية التي امتلكها”، أو هذه المشاعر كلّها مجتمعةً!
سأل الناصريّ العظيم يوماً:
“أليست الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس؟”، ثم تابع موصياً “اطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبِرّه، وهذه كلّها (الطعام والشراب واللباس) تُزاد لكم”. وما هو ملكوت الله إلا تلك المملكة التي نملك بذارها في قلوبنا، فكما قال هو “ها ملكوت الله في داخلكم”. ملكوت الله هو ملكوت الحبّ والفضيلة وعيش المبادئ البسيطة، والاستمتاع بعطايا الإله التي نراها في الأخوّة والمحبّة والعشق وكلّ الأحاسيس النبيلة. ملكوت الله هو ان نجسِّد كل تلك “الرومانسية” لتصبح واقعاً نعيشه، لأن هذه هي إرادة الرب وهو منحنا القدرة بأن نفعلها، لأن التحكّم بها بأيدينا نحن، وهو بقوّة قناعتنا الداخلية وإيماننا الحقيقي بهذه الأمور الأصيلة، فلا يمكن لأيّ أحدٍ من الخارج أن يحاربها. فكيف لمن هم من خارج أن يحاربوا ما نملكه في الداخل؟ هذا مستحيل يا أحبّة!
لن نخاف الذين يقتلون الجسد ويضايقون السَّمَع ويتحدَّثون بالتوافه لأنه ليس بإمكانهم قتل النفس والحبّ وما نمتلكه من كنوز خالدة في أعمق أعماق أرواحنا.
صافيتا 2-4-2011
نكتب شيئاً من الحقيقة بعد يوم الكذب!
حلوة
هل يمكن الربط بين ملكوت الله وما يتضمن بالحب بمعنى العشق؟
إنشاء الله تصاب بداء الحب بعد آب القادم!!!!
شكراً قسيس
أعتقد بأن ملكوت الله يتضمن طيفاً واسعاً من المعاني…و أراه يجسِّد كل المعاني والأحاسيس الأصيلة التي قصد الرب ان تكون موجودة منذ بداية الخليقة. وعليه فالحب بمعنى العِشق هو واحد من مشاعر عديدة كالأمومة والأبوّة والصداقة والأخوّة والتشاركية قُصِد لها أن تكون في صميم اهتمام وتركيز الإنسان وبحثه الجادّ في هذه الحياة.
فادي
الرب يباركك
دائماً تفاجئني بما يدور في داخلك من أفكار
اتوقع أن الملك الألف سيحمل الإجابة على تمنياتيك وأحلامك على هذه الأرض الملعونة
وأرجو أن نكون ككنيسة قد نجحنا في تقديم بروفى عن أجواء الملك الألفي .. وليس الملك الجهنمي
اتمنى لك التوفيق
الأخ مازن
شكراً أخ مازن
في الحقيقة فإنني أنا نفسي أتفاجأ بما يخطر في بالي وبالتجارب التي أتعرّض لها.
أقول الصدق أنني تعلّمت في الكنيسة الكثير الكثير عن الصداقة والأخوّة واختبرتهما. ولكني أيضاً رأيت في نفسي وفي غيري من المؤمنين كم نستطيع أن نخدع أنفسنا في كثير من الأحيان.
لديّ اليوم دعوة معيّنة سنتكلم بها عندما نلتقي…وأعتقد أنك ستشاركني فيها.
كم أتوق إلى مجيء المسيح ليحكم هذه الأرض الملعونة حقاً.
فادي