تشاؤم وسوداوية…أم شجاعة وواقعية؟


بقلم فادي أبو ديب

 (نُشِرت سابقاً في مدونة يسوع مخلِّص العالم، بتاريخ 17-12-2010)

يسوع يتفكّر في هذا العالم (؟)

“… الوسطيّة هي الجريمة الأشنع. إنّها الصِّنف الأخطر من التملُّك الشيطاني الأكثر بُعداً عن إمكانية العلاج. حيازتُك ‘ديانةً’ على درجة الاعتدال هي صيغة الدّمار الأكثر إفراطاً”

سورين كيركيغارد

“لذلك جمدت الشريعة ولا يخرج الحُكم البتّة، لأنّ الشرّير يحيط بالصدّيق، فلذلك يخرج الحُكم معوَجّاً”

حبقّوق النبي

لطالما طرحت على نفسي هذا التساؤل وهو “لماذا عندما ينبري أحدنا لتوصيف واقعٍ سيِّئٍ ما، يُتَّهم بالتشاؤم والسوداوية؟” وما الدافع الحقيقي لهذا الاتهام؟ وقد وصلتُ لنتيجة مريحة ولكن محزنة في ذات الوقت. فالمريح في الموضوع هو استنتاجي بأنّ هذا الاتهام، في معظم الأحيان، هو أبعد عن أن يكون نتاجاً لنوايا سيِّئة تقصد استصغار الشخص أو إهانته، لا بل إن الكثير من هذه الاتهامات ينطلق من الجانب المحزن للنتيجة التي توصَّلتُ إليها، وهو طبيعة الإنسان الخائفة من المواجهة والمكاشفة الحقيقية للواقع.

تشاؤم، سوداوية، عُنف؟؟

من الواضح أن حالتي التفائل والتشاؤم هما حالتان نسبيتان لا تعبِّران عن حقيقة مطلقة. كما أنّ صفتي “المتفائل” و”المتشائم” تخضعان لخلفية الإنسان المراقِب الفكرية وأيديولوجيته ورؤيته للعالم والتاريخ البشري، ومفهومه لهما من حيث طبيعتهما ومسارهما ومنشأهما ومصيرهما. ولكنني هنا سأركِّز على ناحية معيَّنة، وهي توصيف المجتمع المحيط بنا، كموجودين في الشرق، من وجهة نظر مسيحية تستند إلى الكتاب المقدَّس، بعيداً عن النظرة المثالية التفاؤلية الهيغلية، وما يشابهها من فلسفات ما بعد عصر الثورة الصناعية، والتي دخلت أروقة الكنيسة من حيث لا يدري الناس، فأتت بالخراب إلى طريقة النظر المسيحية للعالم في كثير من الأماكن، إلى درجةٍ أصبح بعضهم ينظر للعالم نظرةً أبعد ما تكون عن فلسفة المسيحية كما هي ضمن أسفار الكتاب المقدَّس.

          ندرك منذ بداية قراءتنا للكتاب المقدَّس أنّ هناك صراعاً محتدماً في العالم بين القيم الإلهية وقيم المجتمع البشري. فهناك دوماً طرفان متناقضان، أكثريّةٌ ترى العالم بسطحيّة، وهي فئة القائلين “نأكل ونشرب لأننا غداً نموت”، وأقلّيّة تراه بعين السماوات. الجهة الأولى لا تقبل الثانية والعكس بالعكس، فالتناقض أعظم من أن يسمح بحدوث التلاقي، فلا يمكن اللقاء بين بين غريزة الإنسان وصورة الإله. وقد كانت صفة “التشاؤم” لصيقةً بتلك الأقلية. فنقرأ عدة قصص وحوادث تظهِر لنا الطبيعة البشرية الهاربة دوماً من الحقيقة. ففي إحدى قصص سفر الملوك الأول نقرأ عن آخاب، ملك إسرائيل، وهو يرفض جاهداً مشورة ميخا بن يملة، لأن هذا الأخير يتنبّأ عليه شرّاً لا خيراً، بحسب رأيه. أي أنه “متشائم” و”سوداوي” لا يسمِعه الكلام الذي يحبِّه ويُدفِئ قلبه. وفي الحقيقة فإن ميخا كان يكلِّمه بكلمات الرب كما هي بدون تزيين أو تحريف أو تلطيف. ونرى الرب يُدين أولئك المتفائلين فيقول أنهم “يشفون كسر شعبي على عثم قائلين سلام سلام وليس سلام” (إرميا6: 14). أما إرميا فهو مثال حيّ على صنف “المتشائمين”؛ يكفي أنه نبيّ البكاء والدموع والمراثي. داود المرنِّم العظيم يقدِّم لنا صورة نهائيّة قاطعة بأنه ليس من فاهمٍ طالبٍ الله، وأنّ الارتداد والفساد هما سمتا الظاهرة البشرية، وأنه ليس أحد يعمل الصلاح أبداً (مزمور53). ماذا لو تجرّأ أحدنا وقام فقط بتكرار كلمات هذا المزمور وغيره الكثير مما ورد في سفر الجامعة، على سبيل المثال، لتوصيف حالة المجتمع الساقطة؟ أو أحبّ أن يستعين في كتاباته وعِظاته بأسلوب وبعض مفردات عاموس النبيّ؟ هل كان سيسلم من نعته بأنه “متشائم” وبأنه من أولئك الذين لا يعرفون كيف يفرحون؟!

          السؤال الأهم هنا هو: هل كان أولئك متشائمين حقّاً أم أنهم كانوا يصفون المرض بشجاعة؟ وهل حال مجتمعنا اليوم أفضل من أيامهم كي نصمت نحن كمسيحيين؟ هل يكون الطبيب، أو حتى ذو البصر الثاقب، متشائماً إن رأى ورماً في جسد مريض فأشار إليه؟ مَن ابتدع مسألة النظر إلى ما يُسَمّى “النصف الملآن من الكأس”؟ وهل كون المرء شاكراً للرب على حياته وأوضاعه يوجب عليه أن يستمرّ في التغزُّل بذاك النصف المليء من الكأس المثقوب، وهو يرى الجزء الفارغ يزداد حجماً واتّساعاً؟ وكيف له أن يبقى شارداً عن حقيقة أن الناس تموت عطشاً حول ذلك الكأس؟

          هل كان الرب يسوع المسيح سوداويّاً حين قال بأنه عسيرٌ على الأغنياء دخول ملكوت السماوات؟ وهل كانت سوداويته عنيفة حين وصف مجتمعه بأنه جيلٌ شرّير وفاسق؟ لقد كانوا مساكين ضالّين، بكل تأكيد، ولكن هذا لم يمنع وصف الحالة وتسميتها باسمها الحقيقي. هل كان يسوع عنيفاً حقّاً عندما هدم كل قدسيّة المؤسسة الدينية ووصف القائمين عليها بما يليق بهم؟ وإن كان الجواب “نعم”، فهل كان ذلك العُنف غير مبرَّرٍ؟ أم أنه كان أكثر من ضروري لكي يوقظ الناس من سباتهم العميق؟

          لقد دأب الرسل أيضاً على اتخاذ موقفٍ معادٍ للثقافة العالمية الساقطة ومقاييسها. فهل كان يعقوب الرسول سوداوياً عنيفاً عندما قال أن “محبة العالم عداوة الله” (يعقوب4: 4)؟ وعلى هذا فكيف ننظر إلى ما طلبه الرسول يوحنا من قرّائه بلهجة حازمة: “لا تحبّوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحبّ أحدٌ العالم فليست فيه محبّة الآب” (1يوحنا2: 15)؟ ثم يتابع جازماً مقدِّماً تصريحاً خطيراً لا يقبل النقاش بأنّ “كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظُّم المعيشة” (1يوحنا2: 16). فعلى مقياس “المتفائلين” يكون الرسول يوحنّا قد أغرق في السوداوية والتشاؤم  الفتّاك، لأنه يجزم منذ البداية بأن لا شيء صالح في العالم، لا بل يزيد، طالباً من تلاميذه بألا يحبّوا لا العالم ولا تفاصيله وأشيائه. وبالطبع ليس المقصود بـ”العالم” خليقة الله من طبيعة بما تحويها، بل الظواهر البشرية كلّها، والتي تتسم بالخداع والطمع والانحراف.

ما المشكلة إذاً؟ إنها صورة الموت:

لم تكن هذه سوى عيِّنة من المواقف التي تتكرَّر مئات المرّات في الكتاب المقدَّس. فما المشكلة إذاً إن تشرَّبنا التعليم الصحيح وطبّقناه على واقعنا؟ فهل ما كُتِب في النصوص المقدَّسة، أيها السادة، كان للقراءة التاريخية فقط، ام لنستخلص منه العِبَر، ونكتسب رؤيته للعالم؟! وعلى هذا، فأين التشاؤم في وصف مصير العالم وحالته غير القابلة للإصلاح كما يصفها الإنجيل؟ وأين السوداوية في أن نَصِف الدَّرَك الأسفل الذي وصل إليه المجتمع البشري، خاصّة في بلاد السبعين مليون أمّي والثلاثمئة مليون خائف ومقهور ومطرود؟

في الحقيقة فإننا جميعاً نعرف هذه الحقائق. ولكن كثيرون يخافون التعبير عنها بصوتٍ عالٍ أو بكلامٍ واضح، لئلّا تصبح الحالة المعروفة، ولكن المكبوتة، ماثلة أمام أعينهم في كلّ حين. السبب هو أن أي مظهر من مظاهر الفساد يحمل في طيّاته إحساساً بانعدام الفعالية، وهذا الانعدام في الفعالية هو انعكاس لصورة مفهوم الموت،  ذلك الشبح الذي يخيِّم بظلاله فوق حياة الإنسان بطولها. فالإنسان يكره توصيف أي مظهرٍ سيِّئ سواء من حيث الشكل الخارجي أو المضمون، حتى لو كان على بعد مئات الأميال عنه، لأنه يثير في داخله مشاعر التشويش والاضطراب، كما يولِّد لديه شعوراً بأن هذا الخراب سيحلّ به بصورةٍ ما. فكل مظهر من مظاهر الحياة يتّسم بالانحراف وانعدام الفعالية أو الفاعلية هو صورة للموت الذي يخافه الإنسان. هو تذكيرٌ قاسٍ بأنّ هناك شيء ما جوهريّ عميق يسير بصورةٍ خاطئة في هذا العالم. شيءٌ لا يمكن تحديد ماهيته بالضبط، لا يمكن السيطرة عليه، ولا يمكن الهروب من وجهه لأننا لا نعرف من أين يأتي ومتى يفعل هذا. أو ربما علمنا ماهيته، ولكننا نخاف أن نعترف ونعيش ونحن مدرِكين تماماً أنّ الانحراف ميؤوسٌ من إصلاحه، لأنه كامنٌ هناك، في صُلب الطبيعة البشرية، وكلّ ما ينتج عنها من ظواهر وفعاليّات، في عُمق الأعماق، حيث لا يصل إلى تلك الكهوف المظلمة سوى روح الربّ نفسه.

واقعيّة:

إنّ قولنا بأنّ العالم يتهاوى وأنّ المجتمع أصبح غابةً (من النوع السيِّئ!) لا ينطوي على أيّ تشاؤم أو سوداويّة. إنها الحقيقة ليس إلّا، الحقيقة التي أدركها الكثير من المفكِّرين عبر العصور، حتى غير المسيحيين منهم. يتساءل الروائي والمفكِّر اللبناني العالمي أمين معلوف:

“كيف يمكن…عدم التخوُّف من حصول تقهقر؟ فإذا ما تمادى العداء الحالي بين مختلف القبائل العالمية، وتواصلت كل أنواع الاختلالات، سيشهد العالم خلال هذا القرن تفتُّتاً للديمقراطية، وللحالة القانونية وجميع القواعد المجتمعية.” [1]

إلا أن معلوف ولأنه ينطلق من وجهة نظر عالمية فيحاول إيجاد أملٍ، أراه فاشلاً من وجهة النظر المسيحية (كما أعتقد بها). فيصرِّح:

“أنا من جهتي أرفض اعتبار هذا الزوغان أمراً لا مناص منه، غير أنّه من الواضح أنه يجب بذل كنوز من الحِذق، وبعد النظر، والتصميم، كي تبقى هناك فرصة لتداركه.”[2]

ولكن يبقى السؤال: هل تملك البشرية مثل هذا الحِذق؟ أشكّ في هذا لسبب بسيط وهو أن البشرية لم تعرف موضع الخلل بعد، فنراها تعالج العوارض دون الأسباب الحقيقية. لذلك فأنا ومن وجهة نظري المسيحية أرفض ألا أعتبر الزوغان مراً لا مناص منه، لأنّه كيف للمدمِّر أن يصبح هو نفسه المصلِح؟

          يعود أمين معلوف ليلخِّص في نهاية كتابه “اختلال العالم” الواجب المُلقى على عاتق البشر فيقول أنه “من واجبنا جميعاً…أن نساهم في مشروع الإنقاذ هذا، بحكمة، وصفاء الذهن، لكن بحميّة، وبغضب بعض الأحيان أيضاً. أجل، بالغضب المتوهِّج، غضب الأبرار.” [3]

وأيضاً يبقى السؤال هنا: من هم هؤلاء الأبرار الغاضبين؟! وكيف لمن يحمل بذور التدمير في ذاته أن يساهم في مشروع إنقاذ يكمن، بحسب معلوف، في “أن نخترع مفهوماً جديداً للعالم”[4]؟ فهل يعلم الإنسان ما هو الخلل لكي يصلحه؟ وإن علم فهل يملك أدوات الإصلاح؟ هل يمكنه نزع بذور الفساد والخطيّة من أعمق أعماقه؟ إنّ الحل الوحيد ليس في “أن نخترع مفهوماً جديداً للعالم”، بل في أن “نختبر ولادةً جديدة للإنسان”. وهذا الاختبار هو اختبار فردي وليس جماعياً. أي أن الإصلاح فردي، على مستوى الإنسان الفرد، وليس على مستوى العالم. لا نستطيع أن ننقذ العالم والمجتمع، لأن إصلاحهما متعذِّر.

          هذه الحقيقة مأساوية بالنسبة للعالم، لأنّه بدون رجاء. ولكن لماذا علينا أن نخاف كمسيحيين؟ لماذا ينبغي أن نخشى من الاقتناع الكامل بهذه الحقيقة والعيش بحسبها؟ فكفانا رقصاً، ونحن لا نملك بين يدينا سوى أشلاء إنسانيتنا الممزَّقة! إنسانية رغب لها يسوع الناصريّ يوماً أن تكون متَّجهة في الاتجاه الصحيح. وإذ بنا نسبِّح بحمده دقائق قليلة ثم ننغمس في قيم العالم مجدَّداً. رجاؤنا الوحيد هو أننا “منتظرين الرجاء المبارك و ظهور مجد الله العظيم ومخلِّصنا يسوع المسيح.” (تيطس2: 13)

 إن كان هناك من أبرار (متبَرّرين) غاضبين فهم حتماً تلاميذ يسوع المسيح الناصري، إلا أنّ هؤلاء الأتباع لا يمكنهم إلا أن يتبعوا وصيّة معلِّمهم ومخلِّصهم الذي أوصاهم قائلاً:

“ومن لا يقبلكم ويسمع كلامكم، فاخرجوا خارجاً من ذلك البيت، أو من تلك المدينة، وانفضوا غبار أرجلكم.” (متى10: 14)

فإذا كان علينا أن نتخلَّص حتى من الغبار، فلماذا نستمر في الغوص في المستنقع الموحِل؟!

المراجع:

[2],[1] أمين معلوف، اختلال العالم، ص292. دار الفارابي للنشر.

[4],[3] نفس المرجع السابق ص307 و 306

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.