طغت على المسيحية الرسمية، أو الكنائسية Churchianity كما يحبّ آرنو فروز تسميتها، الصورة التقليدية في ممارسة تبعية يسوع المسيح.وأكثر من ذلك، فإن يسوع الذي يرسمه التنظيم الكنسي في معظم الأحيان هو شخص ذو صورةٍ شبه جامدة، وتُسرَد سيرته وتفاصيل رسالته المذكورة في الأناجيل الأربعة بدون التفكير في محتوى ومضمون بعض محتوياتها الأكثر حساسيةً. و قد تحوّل يسوع الناصري، الإنسان-الإله، والمعلِّم الجليلي الثائر، إلى راوٍ لمجموعة من الأخلاقيات، وصانعٍ للأعاجيب، وماردٍ سحريّ يقضي معظم وقته في تسيير التفاصيل الدقيقة “لأتباعه” الغارقين حتى قمّة رؤوسهم في معمعة الطّمَع البشري، التي علّمهم هو نفسه، في إحدى أهمّ عناصر بشارته عن الملكوت، أن يبتعدوا عنها بُعداً نهائياً. ولا حاجة هنا لأضع الفصول الإنجيلية الملائمة، فقراءة الأناجيل الأربعة، وخاصة الموعظة على الجبل في متى من الفصل الخامس وحتى السابع، كفيلة بتبيان ما أرمي إليه.
تمرّ علينا كثير من تفاصيل الأناجيل ونحن جلوسٌ في أماكننا نستمع للتعليم المؤسساتي لعشرات السنين، أو وقوفاً على منابرنا ومذابحنا نعظ عن ثورة لم ولا ننوي أن نمارسها، لأننا نشعر في أعماقنا التي نخاف أن نصرِّح بما فيها بأنها مخيفة ولا منطقية، فنمضي الوقت جاهدين في “مَنطَقة” تعاليمه و”عصرنـتها”، فتشيع بيننا ممارسات وسلوكيات نعرف في قرارة انفسنا أنها ممارسات فرّيسية على المستوى الفردي، أو نفعية براغماتية على المستوى المؤسساتي (الكنسي). فيسوع الذي تبشِّر به قطاعات واسعة من الكنيسة- المؤسسة هو يسوعٌ معتدل، لطيف، لا يجرح المشاعر ورقيق للغاية كورق شجر المشمش، وهو أيضاً نظاميّ للغاية، وخاضع لكلّ السُّلُطات العادلة (نوعاً ما) منها والفاجرة، كما يبدو أن يسوع هذا لا يصرخ ولا يصيح ولا يُسمَع صوته في الشارع، لأنه يخاف أن يزعج الجيران، وهو لذلك قانع بالمذلّة، وما الخطأ؟! فالقناعة كنزٌ لا يفنى، “وهذه هي إرادة الله”. وقد كان هذا الشاب الوديع “يمجِّد الربّ” في كلّ مرّةٍ يتفوَّق على كلّ نجّاري الجليل واليهودية في صناعة وتزيين القِطَع الخشبية الفائقة الجودة التي كان يصنعها “بقيادة الرّوح القدس”!!
إذن تمرّ علينا الكثير من سلوكيات وأفعال المعلِّم يِشوع الجليلي بدون التدقيق فيها ولا التأمّل في ما قد تعنيه وتدلّ عليه. والحقيقة أن العُمر كلّه لا يكفي لفهم يِشوع، ولكن تخيّلنا لتصرّفاته بدقّة ووضع أنفسنا مكانه ومحاولة فهم الحالات التي كان يمرّ فيها ومعناها، لا شكّ أنه سيساعدنا جيّداً في فهم الحروف الأولى من قصة حياته المثيرة لكلّ إعجاب وتستحق التبعية الأمينة. فيِشوع كان صريحاً وحاسماً مع الكهنة والفرّيسيين والكَتَبة الذي تجاوزوا وسخّفوا الشريعة الإلهية. تخيّلوا لو كنّا نحن مكانه. هل كنا سنفعل الشيء ذاته؟ ام اننا كنا سنسعى لمراضاة هذه الفئات الهامة من المجتمع على مبدأ “العين لا تقاوم المخرز”؟
الكنيسة-المؤسسة تهتم اليوم كثيراً جداً بصورتها الاجتماعية أكثر مما تهتم بأن تكون حقاً تشبه، ولو قليلاً، يِشوع الناصري. الكنيسة- المؤسسة تحبّ اليوم ان تكون راقية و”متحضِّرة” وذات لمعان فائق، مثلها مثل كل المؤسسات العالمية الأخرى.
يِشوع الجليلي كان حاسماً أيضاً في رفضه لكثير ممن أرادوا تبعيته بقلوبٍ غير متأكّدة مما تريده. لم ينتظر ولم يتوانى. كان رفضه قاطعاً ومباشراً، لا بل حتّى أعطى الفرصة لمن يريد أن يتركه من تلاميذه. لم يرفضهم يِشوع حفاظاً على صورته في أوساط المعلِّمين، ولا خوفاً من أن يقولوا بأنّ فلانٌ من أتباعه، بل رفضهم لأنّه يعلم جيّداً من يصلح ومن لا يصلح للملكوت، فمن يضع يده على المحراث وينظر للخلف هو غير صالحٍ، وانتهى!. أين الكنيسة- المؤسسة اليوم من هذا؟ بعيدة جداً جداً!
يِشوع لم يَخَف أن يقولوا عنه أنه زعيمٌ لمجموعة من الجَهَلة والبسطاء وعناصر حزب الغيورين (سمعان الغيور على الأقل كان واحداً من أفراد ذلك الحزب). كان يعلم ما يريده، ويعلم ما هو المهمَ، وليس مستعدّاً لإبداء أدنى مساومة على المبدأ، الذي هو فرض نمطٍ جديد والتبشير بملكوت حقيقي يبدأ هنا على الأرض. هذا الملكوت يبدأ بتغيير كلّي للمفاهيم والمُثُل، بطريقة لم يألفها العالم من قبل، ويبدو أنه لن يألفها أبداً من بعد. يِشوع لم يخشى أن يوصم بالتطرُّف والخروج عن الواقعية حتى من أقرب مقرّبيه وأهله الذين ظنّوا أنه كان مختلّاً، فذهبوا يستدعونه من المجمع في إحدى المرّات، ربّما “سَتراً للفضيحة”! فما كان منه إلا أن أعلن، وبقوّة، أن أمه وأخوته هم تلاميذه الذين يسمعون كلامه ويفعلون مشيئة الآب، ومشيئة الآب ليست ألا تسرق وتقتل وتزني فحسب، بالأحرى أن تصبح شخصاً ذو بديهيات جديدة، أن تصبح يسوعاً آخر في نظرتك للعالم. لم ينتظر يِشوع أن يجمع ثروةً، ولم ينتظر تلاميذه حتى “يضمنوا مستقبلهم” كي يبدأ بشارته بالملكوت. ما فعله يِشوع ومن معه من بعده أعظم مما فعلته كل تخطيطات الكنيسة- المؤسسة.
كثيرون اليوم يتمنّون لو كانوا حاضرين في أيام يِشوع، ولكن هؤلاء أنفسهم كانوا سيعيِّرونه بتطرّفه وعدم منطقيته، وربما تصرّفاته “غير الراقية” كدخوله الانفجاري الذي طهّر باحة هيكل أورُشليم أو “كلامه اللاذع جداً” مع رجال الدين وأصحاب المناصب الدينية، أو “عدم حكمته” التي جعلته يدفع بشابٍّ غني إلى تركه، وجعلته يكون بالغ الصراحة والحزم مع نيقوديموس وهو أحد اعظم رؤساء الشعب العبريّ يومها (بدل ان يكسبه إلى صفّه مع بعض المساومة)، وجعلته يصف هيرودوس بالثعلب مثيراً حنق هذا الأخير عليه، بدل أن يصمت ولا “يفتح العيون” على خدمته المتجوِّلة (كما نفعل نحن اليوم). ببساطة لقد دمّر التنظيم المؤسساتي صورة الثورة التي أطلقها يِشوع الجليلي. ولكنّها وا زالت محفوظةً في أماكن لا تخطر على بال، عند بعض العشّارين والخطاة الذين يقرعون صدورهم كلّ يوم.
يِشوع، أنا لا أستحقك، ولكن رجائي قويّ بنعمتك الإلهية، لأني لست ولن أكون شيئاً. وهذا ليس اتّضاعاً مني بل هو حقيقة صِرفة. ولكني آمل أن تكون خطيتي أقلّ لأني اعترف بانعدام أي شيء حسنٍ فيّ. ربّما فضيلتي الوحيدة هي أني امتلك بعض الشجاعة لأعترف بالواقع المرير بأني لا أستحق اسمك. وما أصعب الاعتراف بعدم وجود الشيء الوحيد الذي أفتخر به!
مقال جميل جداً الرب يباركك
شكراً لك صديقي
كل التقدير لمشاركتك وتعليقك
نعم، لا شك أن المسيح عليه السلام كان قويا ورائعا ولم يتنازل عن مبادئه لإرضاء أحد. لكن لماذا تعتقد أنه إله؟