كلماتٌ أخيرة إلى رومنطيقي


بقلم فادي أبو ديب

ها أنتَ تأخذ أنفاسك بصعوبة وكأنها كلماتك الأخيرة، ثم تنظر إليّ طالباً التعزية. عيناكَ القلقتان اللتان لا تهدأان تطلبان النجدة. ما الذي يمكنني أن أقدِّمه لك سوى تعبيري عن مشاركتك آلامك المفترسة؟ أعلم جوعك لكل ما هو نقيّ وجميل وشفّاف. أحسّ بظمأك لكل ما هو صافٍ وحسّاس وملتهبٍ بنيران العاطفة والتغيير. جسدك يضيق بالرّوح التي في داخلك. في أعماقك، يا صديقي، إلهٌ توّاقٌ للخلق، لا ينفكّ يبحث عن فرصته ليصرخ ” كُنْ “. كم هو ألمك مرعبٌ وحارقٌ عندما لا ترى أمامك شيئاً يكون ويستمر في الصيرورة حتى “يوجد”؛ يوجد حقاً بكل ما يعنيه الوجود الحقيقي، أن يصبح جزءاً لا يتجزّأ من كل بشريّ يتحوّل ويرتقي إلى “الإنسان”. أعرف ما الذي يحصل لشجرة اللوز عندما تُمنَع عن إعطاء أزهارها البيضاء؛ إنها تذبل شيئاً فشيئاً ثم تموت كسيرةً. وها أنتَ تُقسَر على ألا تجسِّد ما في داخلك من انبثاقاتٍ نورانيّة، فتشعر بروحك وهي تتحلَّل رويداً رويداً وأنت كسيح لا يمكنك الحركة. ترى كل ما حولك جامدٌ، مملٌّ وزائف، ولكن الناس تَقبَل وتُقبِل على كل هذه الأشياء بفرحٍ، والأسوأ أنها تتقاتل من أجلها، وتبغض بعضها بعضاً، وتقاطع وتتحزَّب ضد بعضها بعضاً، وتحوك المؤامرات من أجل ان تنعم ببعض الفتات. أعلم أنك وددتَ آلاف المرّات لو كان بيدكَ أن تمسكَ يتلابيبهم الواحد تلوَ الآخر وتهزّهم بعنف، وتخبرهم كم أنهم مخدوعون، وكيف أنهم ذاهبون للموت بأرجلهم آخذين معهم الملايين من البشر. ولكن أليس أولئك أيضاً مُقادين كما هؤلاء الضحايا يقودون غيرهم؟! كلّ البشر عميان قادة عميان. كلّ مظلومٍ كان أو سيصبح يوماً ما ظالماً، وكلّ قاتل سيكون هو المقتول يوماً ما. إنها المأساة البشرية التي لا تتوقّف ولا تهدأ. لكن معاناتك الأكثر حرقةً كانت عندما ترى أحبّائك، وهم يتخلّون طوْعاً عن إرادة الحياة فيهم، لأجل كِسراتٍ زهيدة من رِضىً لن يحصلوا عليه أصلاً من الممتلئين بكبرياء الشيطان. أنت ترى خلاصهم وسعادتهم، وتنظر بوضوحٍ إلى السماء المفتوحة لأجلهم، ولكنهم مع ذلك يرفضون أن يخطوا تلك الخطوات البسيطة نحو ملكوت الفرح الأبدي. لا تستطيع أن تحتمل فكرة أنهم تخلّوا عن أحلامهم وبقايا السموّ في مبادئهم بعد أن كانوا قريبين جداً من الانتصار. ولكن هذه هي حال البشر يا صديقي. خطيئتهم الأصلية هي أنهم لا يمكن لهم أن يكونوا ما يجب أن يكونوا، ولا يَدَعون غيرهم أن “يكونوا” أيضاً. لا تبكِ فهي ليست بالأمر الذي يمكن تفاديه بتلقائية. إنها الخطيئة الأكبر!

    أعلم الكثير أيضاً عن كلّ الألحان الخفيّة التي تنصت إليها في كل وجهٍ، وفي كل ابتسامة، ومع كلّ نشاط إنساني بريءٍ. ليس هناكٌ لحن يشبه لحناً آخر، فدائماً ما تنعم بمتعة اكتشاف الجديد والغامض والمجهول. في كلّ فتاة هناك جديد، وفي كلّ عينين هنالك بريقٌ لم يُرَ من قبل. وبقدر النشوة هنالك ألمٌ لا يطاق مع كل افتراق، ومع كل خوفٍ من مجهول، وفي كلّ قلقٍ من مستقبل لا تعرف ماذا يحمل. مستقبلٌ قد يخفي وجهاً طالما أحببته، أو يخفي ابتسامةً لطالما رنوتَ إليها بشغفٍ، وتخيّلتها، وحلمتَ بها، وتصوّرتها متضمَّنةً في كل جمالٍ آسرٍ. هذا المجهول القادم بأمواجه الضّاربة، التي تهاجم بين حينٍ وآخر من بين ثنايا الرّوتين القاتل، قديُميت ضحكةً لطالما عشقْتَها وهي ترنّ في مسامعك ليل نهار، ولطالما تفاءلتَ بها حين تقضي الساعات الطِوال بين الوجوه المكفهرّة والقلوب المتعفّنة القذرة. أعرف، يا صديقي المتألِّم، كم كنتَ ولفرط خوفك من اقتحام النجاسة المستبيحة لأعماقك، تلجأ إلى بقايا أصداء تلك الضحكات المسطَّرة على أوراق كتاب عشق حبيبتك ما بين دفّتي التّـيم والخجل، التي كانت غذاءً لخلايا الرّوح الرقيقة السّاكنة فيك، كما لو كانت نوراً سماوياً ينبثق خصّيصاً لأجلك من شمسٍ لا تغرب في عالمٍ بعيدٍ وكامل.

    أشعر بالحيرة، يا صديقي، فأنا أفهمك كما لو كنتُ أسكن قلبك، وأتحسّس بجلاءٍ ما تحسُّه كما لو كنتُ أنتَ. أتلمَّس بؤسك لأجل كلّ معذَّبٍ ومقهور لأنك ترى فيه تجلٍّ واضحٍ لبشرية كانت وستظل متّجهة نحو الدمار، وأعرف كيف تنسحب روحك هاربةٍ أمام كل دمارٍ وبشاعةٍ وتعدٍّ وظلمٍ، أمام كل ما يحارب إنسانية الإنسان، أمام كلّ مغتصِبٍ يتجرّأ عنوةً، وبكل وقاحةٍ، أن يطمس صورة الألوهة التوّاقة للحبّ والكمال في داخل الطفل قبل الفتى. أشعر بغضبك وكراهيتك المقدَّسة وبغضائك الطاهرة المنبعثة من قُدس أقداس الألوهة المتأنسِنة لكل من يعتبر أنّ من حقّه أن “يتأستذ” على ضعيفٍ تائهٍ باحثٍ عن الشَّغف الحقّ، أو على صبيّة خفيفة الرّوح تنتظر شفاء قلبها المليء بالشظايا على يد جرّاح يقبل أن يدمي يديه في نزعها.

إلا أن كراهيتك المقدَّسة تلك لا تريح روحك، لأن فيض الألوهة داخلك يسعى فوراً إلى طرد كلّ الأصابع المتَّجهة لاتهام الإنسان الآخر فهو أيضاً فريسةٌ لظلمٍ عمره من عمر البشرية البعيدة عن الإنسانية، فيقع في داخلك الصِراع الأبدي الحتميّ بين الحبّ والكراهية، والذي يزداد عنفه كلما ازددتَ إنسانــيّةً. آهٍ، يا ليتك كنتَ حقوداً كارهاً! لكنتَ في نعيم جحيمٍ أرضيٍّ غير محسوس، بدلاً من كفاحك المتواصل لرؤية النقيّ في كل نفسٍ. لكنتَ نلتَ راحتك على ضفّة جدول الحياة وأنتَ تشتم مَن على الضفّة الأخرى، إلّا أنك لم ترضَ بأقلّ من أن تخوض النهر بعكس التـيّار لتصل إلى كل المجروفين والغرقى. أبيتَ إلا أن تكون مسيحاً صغيراً يحمل خطايا البشرية والطبيعة وكأنها ذنوبه، وكأنه هو المسؤول عنها، وكأنه هو المُطالَب بحلّها وتخليص الناس منها. كنتَ تريد أن تصبحت مخلِّصاً للجميع، فكان لك أن تثقَّلت روحك الشفّافة بكل الآلام والأتعاب، وامتلأت ذاكرتك بكل الوجوه المتعَبة والقلوب الجريحة الباحثة عن بصيص أمل، وها هي أذناك تمتلئان بأصوات ضحكات تخرج بعد زفرات الألم والأمل، وعيناك لا تريان إلا ابتسامات أشخاصٍ غير معدودين، فتراها وكأنّها شذرات من ألوهة مفقودة يجب أن تعيدها لهم…ولك مهما كان الثَّمَن.

 مّن قال لك أن المحبّة راحة واطمئنان؟! لا وألف لا… إنها صراعٌ لا ينتهي إلا في الملكوت الأسنى. قد كنتَ تكافح لأجل ملكوت الحبّ والشَّغَف. الملكوت الذي عِماده إنسانية الإنسان وألوهته الساعية للخروج من قمقم الأعراف والبديهيات والقوانين المقيِّدة والدساتير المفصَّلة لمصلحة الجبناء وغير المؤمنين بقدرة الفرد على الإبداع والخَلق بدون تصريحاتهم وشرعيّاتهم السّاقطة، والصالحة فقط للجماهير الغارقة في دوّامة الاعتياد والجمود والتحجُّر. الملكوت الذي يعترف بحق الإنسان في أن يقرِّر ماذا يريد، وماذا وأين يعمل، وكيف ومتى يحبّ، وكيف يعيش مع الآخر، وكيف ينمّي بذرة النور التي وضعها الخالق في قلبه، وجاء اللوغوس الإلهي ليعلِن أنّ وقت سقايتها وإنباتها قد حان.  انظر في عينيّ! ألا ترى انعكاساً لروحك في مرآة هاتين المقلتين الحزينتين معك ولك؟ لماذا تذوي وتموت أمامي وقد وجدتَ مرآتك؛ وجدتَ طريقك. لا تغادر قبل أن أنهي كلماتي الأخيرة!

مأساتك هي بسبب الخديعة الكبرى التي تعيشها. قالوا لك بأن الحياة في الأمل تحيي الروح. ولكن هذه كذبة مأساوية. كل حزنك وألمك بسبب الأمل الكاذب. ما زلت تأمل في أنّ البشرية ستسير حسب الفضيلة، وأنّها ستصل إلى يومٍ ستقدِّس فيه العاطفة، وتهتمّ بالإنسانية الحقيقية، بدلاً من الإنسانية الخادمة كالبهائم، وأنه سيصبح للإنسان الفرد قيمة بحدّ ذاته وليس بحسب ما يملك أو ما ينتِج أو ما ينتُج عنه. ما زلت تأمل بأنه سيصبح لكل فرد الحقّ في أن يقرِّر عيش عِشقه الذي يستحوذ على قلبه. ولكن هذا لن يكون يوماً ما كما لم يكن في القديم. الأمل هو ما يؤلمك عندما لا ترى ما تأمل به أمامك، فتوقّف! وليكن مباركاً قنوطك من الظاهرة الجماعية، ولتفرح بكلّ فرد يستنير فتبدأ زهرة حياته الأبدية بالتفتُّح وإعطاء الثَّمَر. توقّف عن الأمل بمستقبلٍ للأرض. توقّف، أنا أتوسّل إليك! توقّف عن ذلك إكراماً لكل ضحايا الظاهرة البشرية. توقّف إكراماً لكل طفلٍ مقهور ولكل جائع ولكل ذي قلبٍ وحيدٍ وبارد. توقّف عن الأمل إكراماً لكل شابّ مات حلمه، ولأجل كل فتاة قضت سنينها ولم يأتِ من يقدّرها، أو أتى من عشقها وهام بها فقتله الناس بسيوف ألسنتهم وإهاناتهم وسخريتهم التي اغتالت ما بقي من نقاوةٍ فيه وفيها. توقّف عن الأمل لأنك  تهين بذلك كل متعطِّشٍ للإنسانية وهو يراقب نفسه كيف يمرض ويذبل من الداخل، وهو لا يستطيع فِعل شيءٍ لإنقاذ ذاته. كُفَّ عن الرّجاء بالظاهرة الجماعية لأنك بهذا تخبر ملايين الحزانى بأنهم كانوا مخطئين وأنّ العالم ما زال بخير، فتطعنهم في صدورهم التي أداروها لك علّهم ينالون عِناقاً بالكلمة أو الجسد يخفِّف، ولو نذراً يسيراً، من ألم الطعنات في ظهورهم.

توقّف عن الأمل…توقّف، فيكون ألمك واحداً على موت الظاهرة، ولا تكون بعدئذ آلامٌ وآلام على كل فردٍ يذبل أمامك ويذوي شيئاً فشيئاً.

وعندها يا صديقي يمكنني أن أقول لك: قد تحرَّرتَ حقّاً، فلترقد روحك بسلام!

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.