بقلم فادي أبو ديب
الكل مشغول في هذه الأيام بما هو قادم مما يُسمّى “الحوار الوطني”، فالبعض ينتظر المشاركة بفارغ الصبر فيه، وآخرون يكتفون بالوقوف للتفرُّج بحماسة على ما سيحدث وما سينتج عن الحوارات هنا وهناك، وآخرون يرفضون هذا الحوار من أساسه. ولكن يبقى هناك قلّة قليلة تقف متفاجئة مما يحدث ومن اعتبار البعض بأن الحوار فعالية بشرية تحتاج إلى من يطلقها ويسمح بها ويضع لها شروطاً وقوانين ويحدِّد لها مواعيد وأمكنة و”ورديات”!
هذه القلّة تؤمن بأن الحوار والنقاش والجدال والتعاطي الإنساني- الإنساني، الفردي و الجماعي، هي ظواهر وفعاليات موجودة مع البشر بالفطرة، تزداد هنا وتنقص هناك، وتختلف أشكالها ولغاتها، ولكنها تبقى موجودة، وليس من حق أي أحد أن يحتكرها أو أن يعتبر نفسه وصيّاً عليها، أو مكتشفاً أو مخترِعاً لها. فما انقطع أيّ فردٍ يوماً عن الحوار، على الأقل مع ذاته وفي داخله، ومن ثم مع من حوله في البيت والدّكّان والحارة والحيّ. الحوار ظاهرة طبيعية تمارسها حتى القبائل في أدغال إفريقيا وآسيا وأستراليا والقطب الشمالي! الحوار لا يحتاج إلى الكثير من التعقيدات لكي يبدأ، ولا يحتاج إلى الانتظار طويلاً لكي ينطلق، لأنه هو الحالة الطبيعية، التي يمارسها البشر بالطبيعة، سواء أتقنوها أو كانوا فيها مبتدئين.
وبهذه المناسبة يلفتني، كما يلفت الكثيرين غيري، في هذه الفترة التشديد الفولاذي على مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفايسبوك والتويتر وغيرها، والتي باتت طريقة التواصل الوحيدة لمن فرّقت بينهم المسافات والبُلدان وأجور الهاتف النقّال النارية التي تأبى الانخفاض ولو كره الكارهون، وحتى لو أحرق كل الشباب أجسادهم كما فعل البوعزيزي! فحتى هذه الوسائل البسيطة، التي لا تُغني في الواقع عن متعة التواصل الإنساني المباشر، ولا تعوِّض عن حرارة اللقاء، ولا تحلّ محلّ لقاء الأيدي المتصافحة والأعين المتخاطبة، حتى هذه الوسائل باتت ممنوعةً أو مقنَّنةً أو خاضعة لرغبة القولبة الشنيعة، والتي تؤلم كل ذي روحٍ شفّافّة حرّة.
أما الجامعات، وهي التي يُفتَرَض بها أن تكون أرقى المؤسسات التي ابتدعها البشر عبر تاريخ وجودهم، فكلّ شيء فيها مصنَّع لهدف واحد وهو إنتاج موظَّفين، من أدنى الرُّتب حتى أعلاها، لخدمة السّوق. الجامعات في معظم أنحاء عالم اليوم، هي مستودَعات لرفد سوق الإنتاج بيد عاملة، سواء كان أصحابها يرتدون ثياب العمل المتَّسخة أم البذلات الرسمية. المهمّ أن النتيجة واحدة وهي كائن بشري مستَعبَد. ولكي لا نبقى في العامّيات، سنحدِّد حديثنا بالجامعات في بلداننا العربية المرهَقة، التي يمنع طلّابها من أي عمل أو نشاطٍ فكريّ عدا ما حدُّد له في “الوجبة الدراسية” اليومية والسنوية. وأذكر هنا أن جامعتي نشرت منذ أشهر بيانات، ملخَّصها النهائي يفيد ما يلي “أيّها الطالب، ادرس المطلوب وأغلق فمك، من فضلك!”. فالصورة القديمة عن الطالب الباحث قد زالت في معظم أنحاء المعمورة، وقد انتهت حتماً في بلادنا. والفِكرة القديمة التي قد تكون موجودة عند البعض، والتي يتخيّلون بسببها تلك المؤسسات البحثية العامرة، التي تعبق بعطر عصور النهضة والتنوير، والمليئة بالعقول الناقدة والباحثة، والمترَفة بالنقاشات والجدالات التي تذهب بأرواح المشاركين بها إلى محيطات لا تنتهي من محيطات الأفكار والإبداعات، موجودة فقط في أكثر مساحات خيالاتهم ورديّةً. ولكي لا يدّعي قائلٌ بأن “هذه مسؤولية الداخل إلى المؤسسة”، أقول له بأن المُخرَجات تكون على حسب نوعية المُدخَلات، ويمكن لمن يريد أن يتأكّد ان يسأل الخبراء في مجال الإصلاح الزراعي ورعاية الماشية! وتبقى الاستثناءات موجودة بكلّ تأكيد.
أما أماكن العبادة فهي أيضاً أصبحت، كما كانت دوماً، خاضعةً لأمزجة القائمين عليها ومصالحهم وتوجُّهاتهم على الأغلب وهنا طبعاً أسجِّل اعتراضي على مصطلح “مكان العبادة”، لأني أؤمن بكل قوّة بأن العبادة لا تعرف مكاناً محدّداً، وأماكن العبادة الرسمية برأيي ليست أمراً مهماً، ويمكن إلغاؤها بدون أسف ولا ندامة. ولكنني أستعمل التعبير تماشياً مع السائد من الثقافة الموجودة. وبما أن هذه الأماكن موجودة، فالمتوقَّع منها أن تكون هي أيضاً، إلى جانب ما هو مفتَرض أن تقوم به الجامعات، أن تلقِّن الإنسان مبادئ الحوار والإنسانية، وتعلِّم الإنسان قيمته الحقيقية كحاملٍ لصورة الخالق، والأهم أن تعلِّمه كيف يرى هذه الصورة في الإنسان الآخر، وكيف يدافع عنها ويصونها أمام كل أنواع الظلم السُّلطوي والمُجتَمَعي والمؤسَّساتي. ولكن للأسف ليس هذا ما يحدث، بل أضحت المؤسسات الدينية على اختلافها منبعاً لتعليم الإنسان الصَّمت على الظلم وإيجاد الفتاوى التي تبرِّره على أنه “إرادة الله”. وهنا يجب ان أقول على عجالة بأن الله لا يرضى بالظلم أبداً، وليست إرادته أن يعيش الإنسان طوال حياته تحت الظُّلم والعدوان، سواء كان هذا العدوان من قبل حاكمٍ أو مجتمعٍ أو مؤسَّسة أو عائلة. فقد يسمح الله بالظلم لفترة من أجل تنبيه المظلوم على خطاياه، ولكنه بالتأكيد لا يشاء ان يبقى المظلوم مظلوماً إلى الأبد.
وعلى هذا فالمؤسسة الدينية التي تسكت على الظلم، أو تتعاون معه أو تدعو إليه هي مؤسسة ساقطة من حيث المبدأ، ووجودها وعدمه سواء، لا بل ربما كان وجودها أسوأ من عدمه. ولنكون محدَّدين اكثر فإن هذا هو حال المؤسسات الدينية في بلادنا، مؤسَّسات وعظ وخطابة وفتاوى، وهي لا تلعب أيّ دور في خدمة إنسانية الإنسان من حيث هو كائن فرد مستقلّ ذو كرامة وموجود في جماعة مكوَّنة هي الأخرى من أفراد مستقلّين ذوي كرامة، يمارس كلّ منهم دوره بكل طوعية وإرادة في بناء جماعة لا تتوافر فيها صفة القطيع.
وأخيراً، إذا نظرنا إلى الصورة العامّة، إلى تجمُّع بشري (لا تتوافر فيه صفات المجتمع بعد)، مواقع التواصل الاجتماعي فيه، في الإنترنت وفي المنتديات الاجتماعية، تخضع للرقابة والمنع والتقنين، وجامعاته التي هي مصانع شبابه عبارة عن مؤسسات برمجة للنفوس، وتدجينٍ للإرادات والأفكار، وتصدير لليد العاملة الصامتة غير المفكِّرة، ومؤسساته الدينية مصانعٌ للذلّ والمهانة، وقتل لإنسانية الإنسان واستقلاليته ومعامل لتشويه صورة الخالق العظيم، وأماكن لإطفاء الأرواح الساعية نحو الحرية من مطامع النفس وظلم الآخر وطغيان سيطرة الآلة. إذا كان هذا هو المجتمع، فأيّ حوارٍ فيه ساقطٌ قبل أن يبدأ، سواء كان وطنياً أم علمياً أم اجتماعياً ام مهما تفنَّن المتفنِّنون في تسميته. لأن البشر لم يُقيَّض لهم أن يعرفوا سوى الحوار الإنساني- الإنساني، حوار العقل والقلب والعاطفة الممارسة بشكل يومي بدو إذن أو شعلة انطلاق، حوار المحبّة الباحثة عمّا هو أفضل لكل إنسان حقّ، إنسان فرد مستقلّ قويّ شغوف بالحياة وليس بثقافة الموت.
القلّة التي تحدّثت عنها في بداية مقالي هذا لا تعترف إلا بهذا النوع من الحوارات، الحوار الموجود منذ الأزل في الأعالي السماوية وفي النفوس الإنسانية الحقّة وسيستمرّ إلى الأبد حتماً.
مقالت رئعة شكراً فادي ……. هذا هو الحوار الي عم نبحث عنو …….. و منشان الفيسبوك و التويتر انا بزبطلك ال VPN بس خبرني و ما عليك :)
شكرأ جزيلاً لك صديقي ويليام
أخي العزيز فادي
عندما ندرس شخصية الرب يسوع والتلاميذ
نرى في كل منهم صاحب ثورة على الجهل , وتسلط المعلمين والكتبة , وعلى العادات والتقاليد التي أبطلت كلمة الله.
لكن أجمل ما في ثورتهم , أنها حددت الطريق للتغير … ليست بالتركيز على كشف العيوب وتوجيه الملامات والتوبيخ فقط… إنما في تحديد صلب المشكلة وهي:
أن الانسان مخلوق مستعبد لضعفات وعيوب كثيرة تظهر بأشكال مزعجة تارة ومؤلمة نارة أخرى دفعتهم في أغلب الوقت إلى الصلاة لأجلهم وطلب الصفح لهم .. , وأقول أيضاً جعلتهم يرسمون الأمل والرجاء بواقع أفضل من خلال قبول التغير عبر الإعتراف بالخطأ والعودة عنه ,(( الأمر الذي غاب في مقالتك )) .
هذا لا يعني أنه لا يوجد أمور واقعية فيما ذكرت , فأنا أتفهم كمية الغضب التي في داخلك … لكن أتطلع إلى الأمل والرجاء الذي أراه فيك دائماً…
أخي فادي
العالم والناس يحتاجون إلى أمل ,,, وإلى طريق حقيقي يقودهم إلى التغير
وهذا متوفر فقط في ملكوت المسيح , أي حيث يملك المسيح.
دعنا نتذكر قول الرسول (( مستأثرين كل فكر إلى طاعة المسيح )) حيث الغفران والمصالحة وعدم الانتقام , وقبول الآخر …هذه هي رسالتنا ,, وهذه هي ثورتنا.
أرجو أن تشاركني أفكارك, وأتمنى أن يوفقني الرب في حسن الإصغاء.
مع محبتي
الأخ مازن حاماتي
مرحباً بك اخ مازن
في البداية يجب أن أؤكد بأنني أشمل في هذه المقالة المؤسسات الدينية المسيحية وغير المسيحية.
بالنسبة لثورة المسيح فأنا أراها قد قوضت التنظيم المؤسساتي اليهودي بدون أن تجد له بديلاً واضحاً، فالكنيسة حتى مع بولس الذي نظم شيئاً منها افتقدت لتنظيم مؤسساتي واضح وكانت كنيسة بيتية عاملة خلال تنظيم المجتمع الطبيعي، هذه رؤيتي الخاصة طبعاً.
هذه المقالة هي ضمن سلسلة، ربما بعضها لا يحوي حلولاً، ولكن بعضها الآخر سيحوي مقترحات إيجابية بكل تأكيد. الحل طبعاً هو في ملكوت المسيح. ولكن الصعوبة في تحديد ماهيتيه.
فإذا قلنا بأن الكنيسة هي بوادر ملكوت المسيح نكون محقين. ولكن الكنيسة شيء والمؤسسة الكنسية شيء آخر، فالأولى جماعة أفراد في المجتمع، والثانية مؤسسة تنظيمية لها أصول وقواعد جامدة أو شبه جامدة، وبالطبع فجماعة الأفراد أكثر حرية وقدرة على العمل من المؤسسة التي لها سياسة وخطة عمل وموازنة و…إلخ تعيقها من التنفس أحياناً، كما تعيقها بكل تأكيد من التركيز على الإنسان الفرد في سبيل خلود التنظيم المؤسساتي!
ملكوت المسيح مبدئياً يمكننا ان نقول بأنه موجود في حيز الفكر لدى الفرد، وموجود بينه وبين جماعة يتشارك معها الفكر والإيمان سواء أسسوا مؤسسة كنسية أم لا. فوجودهم أصلاً في حالة الشركة الاجتماعية والإيمانية اليومية أو شبه اليومية هو كنيسة، ولا أظن أن يسوع اراد أكثر من ذلك.
الحل في ملكوت المسيح، ولكن هذا الملكوت يتضمن أيضاً أن نتذكر أهمية الإنسان وهو ما نفشل فيه أحياناً بحكم توجهنا أكثر فأكثر إلى العمل المؤسساتي. فمقياس الكنيسة الناجحة كثيراً ما يكون مؤسسة ناجحة، ويمكن ملاحظة هذا بشكل أوضح عند الكنائس التاريخية، كما أنه موجود عند الكنائس الكتابية بصورة غير بارزة أحياناً.
أعتقد أننا كمسيحيين نكون مسالمين أحياناً “أكثر من يسوع” في مواضع معينة وأقل منه في مواضع أخرى.
شكراً جزيلاً