بقلم فادي أبو ديب
“…ويجعل جميع الذين لا يسجدون لصورة الوحش يُقتَلون”
يوحنا الرّائي
ربما من كان يقرأ بضعة مقاطع خلافية وجدلية من الكتاب المقدَّس منذ عشرات أو مئات السنين، ومع عدم وجود هذا الإعلام القوي الذي يتابع الأحداث لحظة بلحظة كما هو الحال اليوم، كان سيستغرب الحديث عن شخصٍ حاكمٍ قادرٍ على التحكُّم بكل ما حوله، داعياً الناس إلى عبادته. ولا ريب أن القارئ المهتمّ كان سيسأل، كما نسأل نحن اليوم: هل من الممكن أن يحدث هذا؟! ألم تنتهِ عصور عبادة الأباطرة والملوك وخصوصاً وأن بوادر التقدُّم والازدهار والعلم تلوح في الأفق؟! هل من الممكن للناس بعد اليوم ان يعبدوا حاكماً متسلِّطاً؟ ما الذي يجبرهم على هذا؟ وعشرات الأسئلة الأخرى ستتزاحم بكل تأكيد في عقل كلّ مفكِّرٍ ناقد.
ربما في تلك الأزمنة كان الجواب صعباً على تلك الأسئلة، أما اليوم فالإجابة سهلة. وهل هناك أسهل من وصف ما نراه بدون الحاجة إلى ابتكار تفاسير وتوقُّعات وتخيُّلات؟! وأظن أننا نحن كشرقيين، وبالتحديد الحصريّ من أفلت منّا من براثن العمى الفِكري والرّوحي، الأقدر على الإجابة على هذه الأسئلة. طبعاً موقعنا في الشرق نعمة ونقمة في آنٍ واحد؛ نقمة لأنه من الصعب أن نفلت من العمى والغوغائية والدعاية التي تلاحقنا في البيت والمدرسة والجامعة والشارع، وعند البقّال وفي المخبز. على أفواه أصدقائنا وفي كلمات حبيباتنا وفي مواعظ آبائنا وأمّهاتنا وشيوخنا وكهنتنا. في أهازيج الأطفال ودعوات العجائز وأغاني المطربين المنتفِعين؛ ولكنه نعمة، لأن من أفلت سيكون من السهل عليه رؤية الواقع بجلاءٍ ووضوح، لا يمكن لكثير من الغربيين حتى تخيُّله إلا في أسوأ كوابيسهم، فما يتحدّث عنه هؤلاء كحالة سوداوية مستقبلية من قيام ديكتاتورية عالمية بشكلٍ أو بآخر، نراه نحن هنا في الشرق كلّ يوم. في هذا الشرق نستطيع أن نرى تماماً كيف يمكن للنماذج التي نراها اليوم ان تتوسَّع لتصبح حالةً عالمية، إما بسبب الخوف من الإرهاب أو بسبب النفط أو بسبب العنصرية أو لمئات الأسباب الأخرى. المهمّ أننا نعرف حق المعرفة بأن هذا ممكن، لأنه ببساطة موجود حالياً في مناطق واسعة، ولا يبدو أنه إلى زوال.
نحن نرى اليوم كيف يمكن لشخصٍ أو شركةٍ أو مجموعة أن تجيِّش كل رجالها ومنتفعيها من طلّاب المدارس حتى مقاتليها، مروراً ببعض المفكِّرين والمثقَّفين المزعومين، ورجال الدين الأبرع على الإطلاق في الكذب والخبث وليّ الكلام والمعاني لما يناسب المنعِم عليهم بالمركز والسُّلطة والجاه. منظومة كاملة من القذارة والوحشية والخبث والكذب يعمل بها أطبّاء بملابسهم البيضاء، أساتذة ورجال أعمال ببزّاتهم الرسمية، جنودُ ببنادقهم، صحفيون بأقلامهم، مغنّون ومطربون وراقصون بأغانيهم وأجسادهم، رجال دينٍ بصولجاناتهم وعمائمهم وملابسهم المزركشة و غير المزركشة، وبمختلف الأشكال والأنواع. كلّهم يجتمعون معاً، كما لا يجتمعون عادةً، لإقامة قدّاس لبعل، وليصلّوا كلّهم لإلهٍ واحدٍ كما لم يفعلوا أبداً، ويصفّقوا جميعهم لبعضهم كما صفّقوا دائماً، وليوقّعوا كلّهم على وثائق مكتوبة بدماء وأنين القتلى والمظلومين، وليدعوا الجميع للسجود للوحش ووضع سمته في عقولهم وآذانهم وعلى أفكارهم وعيونهم، ويكون أنّه “لا يقدر أحدٌ أن يشتري أو يبيع” ويعيش بسلامٍ “إلا من له السمة أو اسم الوحش” أو صورته أو يحفظ بعض الشِّعر عنه!
الوحش مع كلّ هؤلاء متآمرون علينا كي لا نقرأ إلا في كتبهم، ولا نسمع إلا من أفواههم، ولا نرى الجمال إلا على طريقتهم، ولا نشمّ أزهاراً إلا من حدائقهم، ولا نتحدّث إلا مع من يروق لهم، ولا نستيقظ ولا ننام ولا نسافر ولا نصلّي ولا نغنّي إلا على مواعيدهم، وحتّى ألا نحب إلا من يحبّون، لا بل ونشتم ونعادي قسراً كلّ من يريدون لنا أن نشتم ونعادي ونقتل، ومن ثم علينا أن نحسّ بالغضب لنفس الأسباب التي يغضبون هم لأجلها، وأن تدبّ فينا الحماسة لكل الأمور التي تحمِّسهم، وأن تمسي قضاياهم قضايانا التي نموت من أجلها أمام أرجلهم، وأن نصبح أغبياء إن هم أرادوا أن يصيروا أغبياء، وأن نغدو وحوشاً إن هم تخلّوا عن إنسانيتهم أولاً وآدميّتهم ثانياً، وأن نقلع عيوننا إن هم أرادوا ان يصيروا عمياناً، وأن نحرق أنفسنا بدلاً عنهم إن أمطرت السماء عليهم ناراً وكبريتاً، لا بل يجب أيضاً أن نعيد تعريف الشجاعة والبطولة والحكمة والعدالة والإيمان والإنسانية والحياة والموت وماهي الأمور الهامّة وغير الهامّة، لا بل والله نفسه، على طريقتهم.
نثبت نحن اليوم في الشرق، كما هو الحال في الكثير من الظواهر في الغرب، أن البشر قادرون دوماً على عبادة الأشخاص، وعلى الالتصاق بهم والتَّسليم لهم رغم كل بطشهم وجبروتهم، وهم مقتنعون تمام الاقتناع أنهم الأفضل، وأنهم السّدّ المنيع الذي يحميهم ويحافظ على “جودة حياتهم” في وجه كل الأخطار. لدينا الآن أوضح الأمثلة عن كيف يمكن للبشر التسليم طواعيةً وبكل نفسٍ راضية لمن يريد أن يسيطر على عقولهم وأفكارهم وإراداتهم، بدون حتى أدنى مقاومة، لا بل يفعلونها بكلّ سرورٍ وقناعة. هم بالطبع يعترفون أن معبودهم بشريّ وقابل للخطأ، ولكنهم في ذات الوقت لن يقبلوا أن توجِّه إليه أدنى نقدٍ أو لوم، أو ألا تكون من معجبيه والمصفِّقين له والدّاعين باسمه والسّاجدين فِكرياً وربما جسدياً له. وطبعاً لا يحقّ لك الحديث عن شكل الحياة والوجود بدون وجوده. العبادة لا تقتضي بالضرورة اعتبار الشخص إلهاً من الناحية النظرية والعقائدية، وإنما يكفي أن تعامله كما يُعامَل الإله وأن تعتبر أن وجودك معرَّض لخطر الزوال بدون طيفه المظلِّل. يكفي أن تقيم قدّاساً لبعل على شرفه!
ملاحظة 1: أنا لا أؤمن أن الاقتباس في بداية المقالة ينطبق كحدث تاريخي على ما يحدث في هذا اليوم، ولكنني أرى ما يحدث اليوم نموذج يوضِّح لنا كيف يمكن أن يكون ما هو مذكور في الاقتباس واقعيّ جداً وقابل للحدوث بسهولة.
ملاحظة2: عدد كلمات المقالة 777
في 7-7-2011