بقلم فادي أبو ديب
منذ عقود، أي منذ نوال مختلف الدُّول العربية استقلالها، ما برح الخلاف مستعراً بين الأحزاب والمرجعيات الدينية والقومية. وكلّ منها يرمي الآخر بأقذع الصِّفات والشَّتائم، غير موفِّرين أي جهدٍ في إظهار أن الآخر هو الخطر المحدق بمستقبل شعوب هذه المنطقة المنكوبة وبلدانها. وانقسم عددٌ كبيرٌ من المثقَّفين بين هذين الفريقين بتنوّعاتهما المختلفة. إلا أنه، وبعد كل هذه السنين الكثيرة، يحقّ لنا أن نسأل: ما الفرق بين الطرفين، ومن الأفضل لقيادة المجتمع؟ هذا إذا افترضنا جدلاً أن المجتمع بحاجة إلى قيادة! حيث أنّ الفكرة الأخيرة مشكوكٌ بأمرها من قبل العديدين، وأنا منهم.
سنبدأ بالأحزاب، فإذا راقبنا سلوك الطرفين، الدينيّ والقومي، سنجد أننا أمام ظواهر معيَّنة. فالطرف الدينيّ يتّهم الأحزاب القومية بالكُُفر والضَّلال أو الزندقة والانغماس في ثقافة “الغَرب الإمبريالي” وتقليد “اليهود والنصارى الصليبيين والملاحدة”. وتقوم حجّة هذا الطرف على أن الأحزاب القومية لا تقيم وزناً جدّياً “لشرع الله” في إدارة الحُكم، كما أنها لا تترك كامل الحريّة للأحزاب الدينية في إذاعة نشاطها في المجتمع، لا بل تقوم بمحاربتها واضطهادها. وبرأي الأحزاب الدينية، فإن نظيراتها القومية تقوم على طرف نقيضٍ مع الله وتحارب شرعه وأنبياءه. هذه الأحزاب والجماعات والمرجعيات الدينية- السياسية تصرّ على أنّ أيّ حريّة مجتمعية يجب أن يكون لها سقفٌ واضحٌ وخطٌّ أحمر تقف عنده ولا تتعدّاه بالقول أو الفعل أو الإيحاء، وهذا السقف هو “سقف الشَّرع”. بالنسبة لهذه الأحزاب والجماعات فإنّ سقف الشَّرع يشمل بالطبع عدم المساس بأيّ شخصيات أو أحداث تاريخية، حتى لو كان هذا المساس عن طريق الدراسة التاريخية والثقافية والأثرية والأدبية، فكلّ هذه الأمور ممنوعة بحجة أنها تفسد المجتمع من حيث أنها تسعى لإلقاء الشكّ في قلوب المؤمنين والضعفاء! وفي ظلّ حُكم المرجعيات الدينية يصير الشكّ قاعدةً مطبَّقة وفاعلة تجاه كلّ آتٍ من الخارج أو مطبِّق لأسلوب حياةٍ لا يتواءم مع الثقافة السائدة، والكارثة الأكبر هي عندما يحاول هؤلاء الأفراد “الضالّين” الحديث عن أسلوب حياتهم أو لباسهم أو آرائهم وأيديولوجياتهم، فيصنَّف عندها هؤلاء في مصافِ الخوارج والمفسِدين ويوصم سامعوهم ومريدوهم بالضَّلال وضَعف النَّفس. و”حمى الله أولادكم ونساءكم!”. فالأحزاب الدينية تظنّ أنها محمَّلة برسالة ربّانية لمنع إفساد المجتمع (حسب نظرتها للفساد)، لذلك فسلطتها إلهية مطلَقة.
ولكن هل هذه السلوكيات مقتصرة على هذا النوع من الأحزاب؟ هل الأحزاب القومية بأنواعها تعدنا بواقعٍ أفضل؟ الجواب هو أنها كلامياً، تعدنا بجنّة اللإنسانية المدنية الحرّة، بينما هي تقوم بمثل ما تقوم به الحزبيات الدينية، بل ربما أسوأ.
لدينا في العالم العربي (إن وُجِد) تجربة تمتدّ لعدّة عقود مع الأحزاب القومية وما شابهها. وهذه التجربة قاسية ومريرة بكل المقاييس. ومهما حاولت أحزاب قومية أخرى أن تظهر نفسها بمظهر مخالِف، أو وعدت الناس بوعود المدنيّة والحرية، فهي وعود زائفة عديمة المعنى. فعجينة الأحزاب القومية هي نفسها، تقوم كلّها ظنّها بأنها طليعةٌ ثورية مقدَّر لها قيادة شعبٍ ما إلى مكانٍ ما! كما أن عجينة الأحزاب الدينية والقومية هي أيضاً نفسها، فكلاهما يعتقدان بوجود مهمّة مقدِّسة ورسالةٍ خالدة يدافعان عنها. ولا فرق إن كانت الأولى مختومة بخاتم إلهٍ ما والثانية مختومة بخاتم الحدود والعِرق أو الأرض والجغرافيا وغيرها.
فالأحزاب القومية كسابقتها الدينية تتهم كل من لا يشاركها جوهر الرأي بقداسة الأرض والقومية والوطن بالتقاعس والتخاذل، كما أنها تصم كلّ من لا يتخذ من أعدائها (أعداء الأمة!) بالخيانة والعمالة والانبطاحية والانهزامية والزئبقية وما إلى هنالك. وإذ كانت الأحزاب الدينية تكره الكفرة والصليبيين واليهود و”بني علمان” و”بني ليبرال”، فإن الأحزاب القومية أيضاً تكره أيضاً “بني إمبريال” و”بني صهيون” و”بني أمريكان” (الإدارة وليس الشعب!، أو الإدارة مع عشرات الملايين من الشعب ذوي التوجُّهات المشبوهة ). طبعاً الحريّة في البلدان التي تحكمها هذه الأنواع من الأحزاب “مكفولة” بشرط ألا تضرب ب”سقف الأمة” أو”الأرض”، وما إلى هنالك من أصناف الآلهة الشبيهة بآلهة الأحزاب الدينية، وإن اختلفت في الشكل والمفهوم. أيضاً هنا يصبح الشكّ هو سيّد الموقف تجاه كل من يفكِّر بالتشكيك بالقضية القومية، وفجأةً يرى المرء المنكوب أن كل وعود الحرية والمدنية قد أصبحت شعارات تذروها الرياح. فالمسكين كان يعتقد بأن ربطة العنق تفكِّر أكثر من اللحية، وأنّ التنورة أو “التيّور” عصريّان أكثر من النِّقاب و”المانطو”!
الأحزاب القومية تعتقد بأنها مدنيّة لمجرَّد أنها لا تنادي بدين معيَّن. وهي لا تعلم (وإن علمت فهي مصيبة) بأن شعاراتها هي “دين آخر” إلهه الأرض، وشعاراته هي كتابه المقدَّس، وسلاحه هو حماسة الشباب، وأعداؤه هم “الكفرة أعداء الأمّة- الدين”. وفي الحقيقة فإن كلا الجهتين تقسمان الجمهور إلى فئتين: فئة تلبس الأحذية وفئة أخرى تُداس بها. وكلّ هذا بحجّة الله والوطن. فيصبح الدين والوطن أداتان لصلب الإنسان واختصاره إلى مجرَّد رقم أو طاقة لخدمة القضيّة، والتي في النهاية لا تخدم الإنسان من جديد.
قد يسأل سائلٌ ما هو الحلّ إذاً بين هؤلاء وأولئك؟ والجواب برأيي بأننا اولاً لا يجب أن نأمل بأن يأتي أحدٌ ليحامي عن كرامة الإنسان الفرد، لأن السُّلطة بجوهرها تقوم على التبعية في كل مكانٍ في هذا العالم، من الولايات المتحدة غرباً، وحتى اليابان شرقاً، ومن السويد شمالاً، حتى جنوب أفريقيا والتشيلي جنوباً. والتبعية لا يمكن أن تعترف بفردانية الفرد الذي يتطوّع للمشاركة في جماعة، لأن هذا الاعتراف مناقضٌ لجوهرها ولأساسها الذي تقوم عليه. إلا أنه إن امكننا الحديث عن طريقٍ أفضل من الآخر، فهو باحترام الكيانات الفردية الصغيرة، وبوجود سلطة مدنية لا مركزية. مدنية حقاً، بحيث يكون لكل إنسان أوسع مقدار من الحرية الممكنة، على ألا يعتدي جسدياً (وبشكلٍ ملموس) على غيره. وهنا أؤكد على شكّي بمفهوم الاعتداء المعنوي، لأنه مفهوم مطاطّ بشكلٍ غير معقول. لذا يجب أن يكون الاعتداء الجسدي على الأفراد أو الممتلكات هو المقياس الأهم (وليس الوحيد) لتجاوز الحريّة.
إنسانية الفرد أهم من الأراضي والحدود والجغرافيا وعقائد الأحزاب بأنواعها، وحتى لو كان الفرد مخطئاً بمقياس ما، فهي في النهاية حريته التي سينال عواقبها، او سيحاسبه الله عليها يوماً ما، وليس لأي جهة في الأرض حق إدانة إنسان بسبب أسلوب حياته أو آرائه أو تعاملاته، طالما أنه لا يعتدي على غيره. وكل مفاهيم الغيرة على الدين الممأسس والكرامة الوطنية والقومية، هي مفاهيم قبلية عفى عليها الزمن بشكلٍ أو بآخر. إنسانية الفرد هي التي تضمن وجود فردٍ واعٍ يتقدّم طوعاً للمشاركة في تأسيس جماعة معيَّنة، إنسانيّة حرّة مدنيّة.
وللحديث بقيّة…
انت كاتب مدهش ومليء بأفكار رائعة وقادر على التعبير بلغة سلسة، لكن تركيزك على الدين مبالغ فيه. ولو كنت أكثر تركيزا على الإنسان في العالم الحقيقي الراهن لكانت كتاباتك جديرة بأن توضع في مكانة عمل المفكر الذي قد يسهم في تغيير المجتمع الى الأفضل.
مقالاتك تستحق النشر في الصحافة، لذلك اقترح ان ترسل بعضها الى القدس العربي والحياة. لكن لغتك بحاجة الى تدقيق ويسعدني ان اصحح مقالاتك لك قبل نشرها يا عمو. ارى فيك الكثير مما فيّ انا. ولذلك سأحاول ان ارسل لك كتابي القديم-الجديد كتاب الحرية الذي اسعى الى نشره قريبا.
مع محبتي واعجابي
شكرا جزيلا عمو
أفتخر جزيلا بتقديرك ويسعدني أن تساعدني في المقالات بكل تأكيد.
في الحقيقة أنا بصدد البحث في الصوفية الرومانسية وإعادتها إلى الإنسان. وأنا أركز حاليا على إعادة النظر بكثير من الأمور الدينية التي تقيد حرية الإنسان.
بشكل عام أنا أرى بأن الدين المؤسساتي هو دمار للإنسانية. ورؤيتي للمعلم يسوع كثائر دمر الدين المنظم لمصلحة الإنسان الذي “كان السبت لخدمته” وليس كما هو الحال الآن. أحتاج الوقت لبلورة رؤيتي حول تفكيك المؤسسة الدينية لمصلحة أفراد مستقلين يشكلون مجتمعات واعية طوعيا. الأمر شبيه قليلا بما فعل روسو من بعض النواحي.
أنا بصدد تحضير مقال “روحي” عن الصراع بين الدين والمسيح فبرأيي أن هذا الأخير نسف التنظيم الديني لمصلحة مجتمع صالح مكون من أفراد وما صار لاحقا من تنظيم مؤسف ومؤلم جدا.
اجمل ما يمكن للمرء قرائته هو تلك الكلمات التي تجول في افكاره وقد لا تسعفه لغته للتعبير عنها …شكرا فادي …رائع في كل ما تكتب
شكراً صديقة روزا…
يسعدني أن تعجبك المدوّنة وما فيها من مقالات
كما يسعدني أن أعرف أنها تعبّر عن خاطر الكثيرين
دمتِ بخير
فادي أبو ديب