بغاءٌ خارج معبد البعل وجولة مع كيركيغارد


بقلم فادي أبو ديب


أجد نفسي مرة أخرى مدفوعاً للكتابة في الشأن العام، الذي لا يمسّ مباشرةً التوجّه الروحي والتأملات الصوفية والرومانسية التي كرّست نفسي لها في هذه المدوَّنة، والتي أحاول من خلالها تقديم شيءٍ يعطي بُعداً مختلفاً للحياة وبعض أحداثها، أو على الأقل فإنه يمنح بعض  النسمات الدافئة والحميمية. وعلى الرغم من ان الموضوع لا يمسّ المواضيع السابقة، إلا إنه يلامس بكلّ تأكيد الإنسان الفرد والإنسانية الجامعة في هذا البلد الذي شاء الله أن اعيش على أرضه. وخصوصاً أنا ما حدث ويحدث جديرٌ بالاهتمام والاعتبار وخصوصاً في ظلّ استيقاظ عبادة البعل بشكلٍ أكثر جلاءاً ووقاحةً (حيث أنها لم تنتهِ يوماً). فبعد أن أنهى المجتمعون إقامة شعائر القدّاس البعلي، وتلوا صلواتهم لآلهة الدِّماء والحرب، خرجوا من معابدهم ليسوقوا في طريقهم المساكين والمغرَّر بهم، لينهوا خطاياهم بإقامة حفلة البغاء الفكري “المقدَّس” بحسب شريعة بعلزبول في الساحات والشوارع، راقصين فوق دماء الآلاف الذين سقطوا ويسقطون وسيسقطون (لا سمح الله) من كافة الأطراف. هكذا وجد قادة العبادة القديمة- الجديدة بأنّ الاحتفاليات “الشوارعية”، والمزارات الطرقية التي تولد كل يوم في الأزقة وعلى نواصي الطُّرقات وإلى جانب موائد بائعي التبغ “المهرَّب” و”غير الوطني”، هي السبيل للقضاء على ما تبقّى من عقل الإنسان، وخصوصاً وأنهم يجدون فرصة سانحة في استغلال الأطفال ليمارسوا عليهم أحدث طرق غسيل الدِّماغ بالوسائل الفنية الحديثة.

          الديانة الجديدة تفرض تعاليمها وترسم لها كهنةً جدد من شاربي دم الفكر النقي، وتعمل على إعادة رسم وتصوير كل الأنبياء بما يناسبها، ولو أمكنها فعلاً فهي لن تتورَّع عن حرق كتبهم وكتب كل المفكِّرين والمصلِحين والشُّعراء في العالمين القديم والحديث، من كتب ومنقولات سقراط ولاوتسو، حتى دواوين نزار قباني وأدونيس، لتُحِلّ محلَّها كتاب بعل العظيم الذي لا يحتوي إلا على أقواله وحركاته، وحتى أصوات قعقعة سلاحه الذي يوزِّع الموت بلامبالاة على الناس الذين لا يبدو أنه يعرفهم، كما توزِّع فتاة مراهقة العطر على أنحاء جسدها الغريب عنها. وبحجة حماية الوطن، تُنتَهَك الإنسانية بمظاهر احتفالية تثبت سطحية مفهوم الوطنية عند المتشدِّقين بها، وتثبت دناءة من يدعم ويشجِّع هكذا مظاهر أصبحت تثير مشاعر متضاربة من الغثيان والضحك والغضب والقرف عند كل ذي عقلٍ مفكِّر. فكهنة الديانة البعلية ما زالوا مقتنعين أن حماية الأرض والعِرض (إن بقي من هذا الأخير شيئاً) لا يتمّان إلا بالصُّراخ والهُتاف وإطلاق الشّعارات التي تجدِّف على مفهوم الفرد والجماعة، وتشكِّل اعتداءاً سافراً على الإنسان والإنسانية، مما يشكِّل خطراً أعتى وأكثر خبثاً من “المؤامرة الخارجية” إن سلّمنا بوجودها. هكذا إذاً استفحلت ممارسات كهنة البعل ومنظّريه، فبدل أن يتوبوا، كما كانوا يفعلون قديماً، فيلبسوا مسوح الإنسانية ويذرّوا على رؤوسهم رماد العقل والفكر الذي يقول “كفى لثقافة القطيع وأهلاً بمفهوم جماعة (أو جماعات) الأفراد المستقلّين المرتبطين ببعضهم طوعاً”، تمادوا في غِيّهم ووجدوا “المؤامرة” و”التخريب” فرصةً لإذابة ما تبقّى من العقول الواعية والتي كانت بالأصل شكّاكة بأخلاقهم. وكل ذلك يتم عن طريق التخويف بالمستقبل المجهول، وعن طريق الإيهام بأن “يوم الحشر” قد جاء وعلى الجميع أن ينسوا عقولهم الفردية لمصلحة العقل “القطيعي” الأكبر، كما تمثِّله مفاهيم القبيلة “الوطنية” بحسب مفهومهم العجيب للوطنية، والتضحية لمصلحة الجماعة بحسب تعريفهم الغريب للتضحية والأكثر غرابةً و”إعجازاً” للجماعة، والخطوط الحمر بحسب كارثية قناعتهم بهوية هذه الخطوط ومطّاطية تموضعها المدهشة. وبدل أن تكون الأحداث الأخيرة في البلد والمنطقة والعالم فرصةً جديدةً وجدّيةً للتفكُّر في وجوب اتّباع أسلوب جديد في الحياة الشخصية والمجتمعية، أضحت هذه الظروف فرصةً لكل مُراءٍ لم يظهر رياءه بعد، ولكل انتهازيٍّ لم ينتهز فرصته في ممارسة الخداع بعد، ولكلّ دجّال لم يقبض ثمن دَجَله بعد. وبذلك أثبتوا لكل مفكِّر حرّ، ولكل عاشقٍ حقّ للإنسانية التي لا تخضع للتصنيفات بأنهم يستحقّون حُكم التاريخ العادل بأنهم تركوا عيش رسالتهم المفتَرَضة بدون أن يتركوا التشدُّق بها. ويا ليتهم تخلّوا عن كثرة الكلام بعد أن تركوا عيش المبدأ، لكانوا حينها يستحقّون شيئاً من الاحترام.

          وبما أنها أيام الفُرَص السانحة، لذا سأستغلّها أنا أيضاً لأدعو كل فرد مفكِّر للعودة إلى الذات، وأن يعرف كل ساعٍ لحرية النفس والفكر بأنّ الظروف كلها تثبت بأن الأمل بالظاهرة الجماعية مفقودٌ، وتحضرني هنا نظرة الفيلسوف الدنماركي العملاق سورين كيركيغارد فيما يختصّ بالفرد والجماعة. ومهما رأى البعض من تطرِّفٍ شديد في “ذلك الفرد” كيركيغارد، يبقى “إنجيل الإنسان” الذي بشّر به فعّالاً وحيّاً في مواجهة “هذا القطيع”. فقد اعتبر كيركيغارد أنّ ” الجماهير هي في صُلب مفهومها تمثِّل اللاحقيقة، وذلك بمنطق الواقع وهو أنها تجعل الفرد لا يشعر بالنَّدَم وغير مسؤول بشكل كامل، أو على الأقل تُضعِف حسّه بالمسؤولية باختصاره إلى جزءٍ صغير.” وهو بذلك يرى أن سعي الفرد الدائم لأن يكون جزءاً من مجموعة هو بمثابة تنويم للضمير الذي يسعى دوماً لإسكاته عن طريق الاحتماء في الخطأ الجماعي الكبير. كيركيغارد ذهب أبعد من هذا عندما اعتبر أن كسب الجماهير والشعبية ليس فيه أيّ فنّ، حيث يكفي أن يقدِّم المرء بعضاً من الهراء واللاحقيقة وأن يكون خبيراً بالعواطف الإنسانية وكيفية إثارتها، لا بل رأى بأنّ بأن كلّ من يسعى لكسب رضا الحشود فيتنازل عن مبادئه ويتملّقهم ويزحف تحت أقدامهم، ينبغي اعتباره أكثر انحطاطاً من بائعات الهوى والغانيات. وهنا نتذكّر ما نراه في أيامنا هذه من تراكض و”تكالب” الكثيرين من متعاطي الشأن العام على كسب رضا الحشود الثائرة من هذا الطرف أو ذاك. وبحجة الديمقراطية أو الوطنية أو كليهما، يموت الفكر الإنساني لمصلحة صوت القطيع الهادر، ويتم اختصار الفرد لمجرِّد طاقة محرِّكة لعجلة المنظومة الكبرى التي لا تعود بالفائدة إلا على أفرادٍ قلائل في النهاية (هم أنفسهم ينتهجون الفردية الأنانية!). ولنا في التاريخ خير شاهدٍ، فالثورات الاشتراكية في كثيرٍ من بلدان العالم لم تُفِد في إنهاء المشاكل والكوارث في تلك البلدان، لا بل زادتها أو حوّلتها من شكلٍ آخر. كما أن الشعارات القومية لم تسبِّب لألمانيا هتلر إلا الدمار والصحوة الدينية السَّلفية من إندونيسيا وحتى المغرب ومن الشياشان حتى جنوب أفريقيا لم تقدِّم للعالم إلا الإرهاب، أما ازدهار الفِكر الوطني والقومي في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية لم ينفع إلا في زيادة العنصرية والحروب عبر العالم. وما زالت مجزرة أوسلو الأخيرة، والتي ارتكبها “وطنيّ نرويجي قحّ” ماثلة أمام أعيننا. مع العلم أن مفهوم الوطنية يحتمل مئات التفسيرات والتأويلات، والجميع يُفلِحون في تحويله للمعنى الذي يخدمهم. وها هي بعض البلدان العربية كالعراق ولبنان تشكِّل أمثلة جيّدة للمراقبة والدِّراسة.

          برأيي فإن المثقَّفين والمفكِّرين، إن هم أرادوا تقديم ما ينفع لهذا البلد أو ذاك، عليهم بالعمل الجادّ على تشجيع روح احترام الثقافة والفكر بدون الاصطفاف مع أيّ من الحشود الهادرة، لأنها كلّها تمثِّل اللاحقيقة، وكلّهم راقصون في ساحات معابد البعل وكهنته، من السياسيين ورجال الدين والتجّار والمتاجرين بالبشر! الحقيقة لا تكمن في إرادة الشعب كما يقولون، فلطالما كانت الغوغاء هي سيّدة الموقف. كما أن الحقيقة لا تكمن في السُّلطة، فلطالما كان الفساد سيّدها والمال حاكمها. الحقيقة، إن وُجِدت في هذا العالم، فهي أقرب لأن تكون موجودةً في مفهوم الإنسان كمخلوقٍ سام. وعلى المفكِّرين أن يركِّزوا على الإنسان وتوعيته عن وجوده كفردٍ في هذا العالم، قبل أن ينتمي لأيّ مجموعة تستغلّه في قداديس البعل واحتفالاته التي تقدِّس أرباب السُّلطة وتنصّبهم آلهةً في هياكل الاستغلال البشري. ومن هذا المنطلق، على المفكِّر الحرّ أن يعمل على نسف المفاهيم التقليدية للمؤسسات التي تُعتَبَر خطّ الهجوم الأول على وعي الإنسان وإرادته، ألا وهي المدارس والأحزاب ذات الأيديولوجيات العنصرية، قوميّةً كانت أم دينية أم عِرقية. فساحة المعركة الحقيقية هي هناك، في المؤسسات التي تعتبر الأطفال المادة الأولية لعملها. فالمدارس تُعتَبَر الخطوة الأولى في مسح الفِكر السياسي والاجتماعي للفرد، ولا يجب قطعاً أن تكون خاضعةً لإشراف أيّ جهة سياسية، لأن الفِكر هو من اختصاص المفكِّرين الأحرار غير الخاضعين لأيّ توجيه سياسي يعتبر نفسه وصيّاً على الفِكر. كما أنّ الأحزاب ذات الأيديولوجيات العنصرية أو الفاشية هي المسؤولة عن تنمية بذار اللاإنسانية والطبقية، ويجب حماية الأطفال منها ومن شبيهاتها الدينية. وهنا مهمة المفكِّرين الإنسانيين هي أن يعملوا على إيجاد بديل يسحب زمام المبادرة من “مصانع التفكير الجمعي” لمصلحة مؤسسات تعتمد احترام الفرد ورغباته، فتفوِّت الفرصة على القوى التي تقود مبدأ القطيع في تزويد معابد البعل وساحاتها بمزيدٍ من الغوغاء، علّها توقف بعضاً من “البغاء الفِكري الحاصل” لأجل أن يزدهر “ذلك الفرد” وتنضج أكثر “تلك الإنسانية” المكوِّنة من أفراد ذوي جباهٍ عالية وعقول مفكِّرة، بدون أصوات عالية وخصورٍ راقصة وقبضاتٍ مرتفعة. وكما يقول كيركيغارد: “في النهاية، أن تكون فرداً يعني أن توجد كذاتٍ فريدةٍ ذات كرامةٍ فوق العِرق، الذي هو الجمهور.”

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.