أمّةٌ على حافّة هرمجدّون!


بقلم فادي أبو ديب

“ما دامت الأمم تنظر بعين الاحترام والقداسة إلى أبطالها لأجل ما قاموا به من قتلٍ وإضرارٍ بأعدائهم، فالحرب لن تتوقّف أبداً”

آحاد هاعام

 

تثبت الشعارات التي تُرفَع في الثورات العربية وطريقة عرضها أنها تنم عن عدمٍ وعيٍ (رغم كل ما يُقال عن وعي الشباب العربي). والواقع لمن يريد رؤيته بدون نظّارات التفاؤل (غير المبرَّر) هو واقعٌ مفزع بكل معنى الكلمة. لا أحبّ كثيراً الدخول في معمعة النقاش الدائر حول من يمتلك الحقّ، الأنظمة أم الشعوب، ولست من أتباع الشعارات العاطفية الرنّانة التي تتحدّث عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، ووجوب انتصار الشعوب لأنها هي “صانعة القدر”. كما أنني لستُ من راكبي موجة الديمقراطية وحقوق الإنسان، على طريقة من يقدِّس النظرية على حساب الإنسان. فإذا كان الجري وراء “الديمقراطية” لن يفضي إلى احترام الإنسان الفرد (وهي في جوهرها معادية للفردية) فهو غير ذي قيمة.

 كثيرٌ من “الديمقراطيين” يعبدون نظرياتهم الخاصة مثلهم كمثل “القوميين” و”الدينيين”، وهم مستعدّون لفعل أي شيء لأجل تحقيق إرادتهم، فالديمقراطية بالنسبة لكثيرين لا تعني أكثر من “انزل عن الكرسي لأجلس مكانك”. وقد أصبحت هذه “الديمقراطية المجهولة”، غير المعرَّفة، حديث الصغير والكبير في عالم العرب الجديد الذي نزل أو أُنزل على رؤوسهم، وكأنها لباسٌ جديد أو تسريحة شعرٍ مميَّزة. فنجد أن من يطالب بالديمقراطية يطبِّق أسوأ أنواع الديكتاتورية داخل منزله، ويرفض رفضاً قاطعاً أن يخالفه أحد في رأيه من بين زملائه، لذلك يمكننا بسهولة التصوُّر بأن مثل هؤلاء سيمارسون أسوأ انواع القمع- الذي ثاروا ضده أصلاً- بحقّ المخالفين. وهذا ديدن العرب على كلّ حال ! ولا عجب في هذا، لأن الشعارات الديمقراطية هي تماماً كالشعارات القومية والدينية، حيث يمكن لمدَّعي اتّباعها ببساطة أن يشتموا ويضربوا وربما يقتلوا ويسحلوا. وهذا طبيعي، فبمجرَّد عبادة القطيع البشري لنظرية ما، تصبح هذه النظرية وسيلة للقتل بمختلف الطُّرُق. لأن القناعات الحقيقية الخالصة لا يمكن تعميمها على الحشود، فكل نظرية هي نتاج صاحبها فقط، ومن يقتنع حقاً بها وبتطبيقات كل جوانبها مع معرفة إيجابيتها وسلبياتها هو هذا الشخص ذاته والأشخاص المفكِّرين فقط، وهذه الفئة الأخيرة نادرة جداً، وخصوصاً في “عصر الوجبات السريعة والمحادثات الافتراضية”.

بالعودة إلى أحداث الانتفاضات العربية، فإنها خطوة جيّدة من الناحية الموضوعية من حيث كونها ترفع شعاراتٍ تدّعي- وفي هذا جزءٌ من الصحّة- أنها ثورة ضد الطغاة والمستبدّين. للوهلة الأولى فإن هذا يدفع إلى التفاؤل ويشجِّع على الحلم بمستقبلٍ زاهرٍ للمنطقة العربية، ولكن من يجول على أرض الواقع ليس كمن يسمع الشعارات عبر وسائل الإعلام. فجولة بسيطة بين مختلف الشرائح “الثورية” ستجعل الباحث يعود أدراجه مرتعداً. فالمنظر يوحي بوجود ثلاث طبقات من “الثائرين” مبدئياً. الطبقة الأولى هي طبقة المسحوقين وأغلبهم من “غير المتعلِّمين”، والتي يُعتَمَد عليها في النزول إلى الشارع وإحداث الضَّغط الجماهيري العددي الفعّال، وربّما التخريب إن لزم الأمر. الطبقة الثانية، وهي الطبقة المحرِّكة الفعلية، ولكنها أيضاً قد تكون الأسوأ في الواقع العمليّ، لأنها هي الطبقة المتعلِّمة “الأكثر وعياً” كما يُقال. هذه الطبقة هي التي تخترع الشعارات العملية المستخدمة في أعمال البروباغاندا الحاصلة والتي تُستَخدَم لإثارة العواطف وتغذية الأحقاد، وهي التي تكوِّن شعارات وثقافة الطبقة الأولى. أما الطبقة الأخيرة  فهي الأسوأ من الناحية النظرية. فنحن لن نراها في الشارع، بل فقط في وسائل الإعلام، أو حتى مختفيةً لا نسمع إلا أسماء أعضائها. لماذا هي الأسوأ؟ لأنها طبقة أصحاب الأموال ورجال الدين الرسمي، وكلا الطرفين يقدِّسان الحشد البشري على حساب الإنسان، لأن في الحشد مصلحتهما واستمراريتهما، وهذه هي الحال في كلّ مكانٍ في العالم، ولا سيما المنطقة العربية طبعاً. في خضمّ هذا الزّحام الغوغائي تبقى قلّة قليلة من المفكِّرين الإنسانيين الحقيقيين، ولكنها غالباً ما تكون خفيضة الصوت، أوتتعرّض للتغييب والقمع من كلي الطرفين، لأنّ كلي الجهتين، أي الغوغاء والنظام المستبدّ، لا يهمهما إلا سحق الجهة الأخرى فقط.

          في المنطقة العربية تغيب النظرية الإنسانية الحقيقية. وكل شعارات الحريّة والمدنيّة والمساواة والعدالة هي شعاراتٌ فارغة، لأنها لا تجد من يقوم على تطبيقها. فكيف لأصحاب المليارات أن يعرفوا ما هي المساواة؟ وكيف لحرّاس “خير أمّةٍ أُخرجت للناس” أن يعرفوا ماهية الحريّة والمدنية؟ أما المضحك المبكي فهو أن يقوم البعض من المنتمين للطبقتين الأولى والثانية بتشبيه ما يحصل في المنطقة العربية بالثورة الفرنسية. هذا ما سمعته من أحد زملائي “المتعلِّمين”! طبعاً هؤلاء لا يهمهم إلا الأسماء وخداع ذواتهم بتشابيه وروايات وأحداث تاريخية لا يعرفون منها سوى أسمائها. فهم لا يعرفون مثلاً أن الثورة الفرنسية (إذا ألغينا اتهامها بأنها حركة ماسونية بحتة) هي نتاج قرونٍ من الفِكر والفلسفة، والتي كان آخرها فلسفة الثائر المفكِّر الفرنكوسويسري جان جاك روسو. والغريب أن نفس الأشخاص الذين يشبِّهون ما يحدث في المنطقة العربية بالثورة الفرنسية، قد تراهم يمتدحون ما يحصل في اليمن، مُبدين تفاؤلاً  كبيراً بمستقبل هذا البلد البائس بحجّة أن أهله “أصحاب دين”!

          إذاً تغيب القاعدة الفلسفية في المنطقة العربية، وتغيب معها الآمال بمستقبلٍ فيه شيءٌ من الحريّة والمدنيّة والإنسانية في بلادٍ ما تزال تبثّ إذاعاتها وقنواتها الرسمية والدينية برامج تفتي بأن كلام الشاب مع زميلته في الجامعة هو “مخالفة شرعية” من حيث المبدأ، وفي بلادٍ يمكن لجهولٍ ملتحٍ، على شاشات التلفزة، أن يسلب عقول الملايين، من أصغر بائع خضار حتى الأستاذ الجامعي!

أرجو ألا يفهم القارئ أني مناصرٌ للأنظمة، فأنا أبغضها لأنها تبغض الإنسان وتستغبيه وتدوسه بصفاقةٍ قلّ نظيرها. ولكني في ذات الوقت لا أعلّق آمالاً عريضة على “الظواهر الصوتية” سواء كانت صادرة من أصحاب السراويل والأكمام القصيرة، أو من جماعة “وأعدّوا”، أو من الذين ما زالوا يحلمون برمي بني إمبريال وصهيون وأمريكان في البحر أو في الفضاء الخارجي، أو من الذين يكتفون فقط بنسيان أجزاء من خارطة العالم ! 

ما يحصل في هذه الأيام هو أن العرب يدفعون ثمن ما ارتكبوه منذ 15 قرناً وحتى الآن. بالنسبة لي عفا الله عمّا مضى فلخالق هذا الكون الأرض وملؤها، ولكني فقط أتحدّث عمّا أراه  سبباً لما يحدث للعرب حالياً. فليست المشكلة كما يظن البعض في الأنظمة والطواغيت فقط، فتلك وهؤلاء نتيجة للقاعدة الجماهيرية التي التي انبثقت منها و”كما تكونون يُوَلَّى عليكم”! لن أتحدث في النظريات، بل سأنزل إلى واقع الأرض، لقد تعايشت الأديان على هذه الأرض (التي نسبها العرب إليهم لاحقاً) منذ 15 قرناً، ومع هذا فعندما ننزل إلى الشارع، وبقليل من التمحيص الفضولي، سنكتشف أن كل هذه القرون لم تجعل معتنقي الأديان أكثر معرفةً ببعضهم البعض. فالجهل المتبادل مهولٌ جداً، وأساطير كلّ طرفٍ عن الطرف الآخر الذي يسكن شارعه وحيّه – ربما منذ مئات السنين- مسيطرة لدرجة تجعل المرء الزائر يظنّ بأن أحد الطرفين أتى إلى هذه الأرض منذ بضعة سنوات! من لا يريد أن يرى هذه الحقيقة فلن يراها، ولكن من يتجرّأ على فتح عينيه والتطواف والسؤال والملاحظة والتفكير والتحليل والاستنتاج، سيكتشف أننا أكثر منطقةٍ ينعدم فيها  التفاهم الحقيقي.

          العرب يدفعون ثمن فشلهم منذ 1500 عام وأكثر في تداول السُّلطة بطريقةٍ سلمية وفصل دينهم عن دولتهم. فكلّي ثقةٌ بأن هذه الأمّة (هكذا يقولون عنها) ما تزال تُحكم من قبور كثيرين لم يتّفقوا هم أصلاً في دنياهم، وها هم يسبِّبون الفوضى من قبورهم. ورغم كل الفوضى والدّمار الحضاري المخيف الذي سبّبوه لأراضي الحضارات الآرامية والآشورية واليونانية والمصرية، فإنهم لم يكتشفوا داءهم بعد. إنها الأمة الأغرب على وجه الأرض؛ أمّة تحاول أن تواجه الداء بالداء ذاته ولكن بنسب دوائية غير صالحة للاستهلاك الفكري، وهذا ردّ استباقي لمن يريد أن يقول “وداوِها بالتي هي الدّاء”! فهذه الأمة قد دخلت منذ زمنٍ بعيد فيما يبدو أنه حلقة مفرَغة لن تخرج منها إلا بالفناء الأكيد، كما يخبر التاريخ من يقرأون، إن وُجدوا! فعندما أراد الفرنسيون وغيرهم التحرُّر من الطاغوت ثاروا ضد الدين المؤسساتي، لأنهم أدركوا أنه مسبِّبٌ رئيسي في إهراق الدماء وامتهان الإنسان، إلا أن كثيراً من “مثقَّفي” العرب و”علمائهم الأفاضل”  يظنّون أن تلك الحالة لا تنطبق على رعيّتهم المصونة، ففي رأيهم أن دينهم أفضل من دين غيرهم! ولا أظن أنه من الصعب أن نكتشف تحت أيّ مصيبة ترزح أمّة العرب (هكذا يسمّونها!) التي ما تزال تصرّ على حقن الميّت بأكاسير حياة فاسدة. المنطقة العربية لم تتطوَّر فكرياً أبداً منذ 15 قرناً وحتى الآن، لا بل تراجعت عن مستواها الذي كان في بعض الأزمنة ربما يبشِّر  بمستقبلٍ أفضل. الحالة تتباين نسبياً من مننطقةٍ لأخرى، ولكن الحال هو ذاته عندما يتعلَّق الأمر بالحرية الإنسانية الحقيقية، فما زالت حتى الأرض هنا تكره المفكِّرين والروحانيين الحقيقيين والإنسانيين، الذين يرفضون أن يقتلوا باسم الله والوطن.

          العرب يدفعون اليوم ثمن 15 قرناً من عدم قدرتهم على التواصل مع بعضهم البعض، ومن مشاكلهم الفكرية غير المحلولة منذ حروب الردّة ضد “مسلمة بن حبيب”، الساحر الحنيفي الذي رغب في تقاسم الأرض مع قريش، فأبت الأخيرة، فكانت “قوماً يعتدون” على حد تعبير مسلمة. هذه الأمة لم تستطع حتى الآن الوصول إلى حلّ بشأن يزيد بن معاوية، وحادثة الإفك، والمئات من الروايات الأخرى التي ما زالت مواقع مهمّة للنزالات الإعلامية الحامية، التي تحرِّض الحقد والضغينة والعنصرية، وبعض التفجيرات هنا وهناك. لم يستطع حتى الآن منظِّرو التاريخ العربي الاعتراف بأن المنطقة العربية كانت تحتوي حضارات “غير عربية”، ولا تمتّ للعرب بصلة، في سوريا والعراق ومصر والمغرب العربي، كما أنهم ما زالوا حتى الآن لم يصلوا إلى حلٍّ بشأن تسمية مقنعة للدولتين الأموية والعباسية أكثر من الاسم الهجين “الدولة العربية الإسلامية”، التي لم نعد نعرف هل كانت “العروبة” مرتكزها أم “الإسلام”، وإذا كان تلك أو ذاك فنحن أمام العديد من الأسئلة المحيِّرة والتي تحتاج إلى إجابات!

          العرب يدفعون ثمن عدم قدرتهم على تقبُّل الآخر حتى لو كان أخاً. ومن ينظر إلى الانتفاضات فيما يسمّى “ربيع الثورات العربية” يدرك مأساوية الحالة القائمة على اعتبار كل طرف للآخر وكأنه الشيطان الأكبر. فنرى متمرّدي ليبيا يقاتلون بشراسة من يقاتل كائنات فضائية قادمة من مجرّة أخرى! وأمثالهم في اليمن وسوريا يتحدّثون عن أنظمتهم وأخوتهم الموالين لها وكأنهم مجرَّد حشرات لا تستحقّ أكثر من الدَّوس بالأحذية! أما الأنظمة فتتعامل أيضاً مع المخالفين والمعارضين والثائرين وكأنهم جرذان أو حيوانات مفترسة، وفي أحسن الأحوال كأغبياء ومختلّين عقلياً! ومع كل هذا القتل والتدمير والتحريض على الكراهية، ما زال الملايين يجدون أنه لا بأس من استمرار القتال الإعلامي البغيض بشأن مسائل تتعلّق بالمهدي، وحادثة الإفك، والأئمة، والشِّرك، وتقديس القبور، وتناول مقدَّسات الآخرين بالشتائم بطريقة همجية. كما لا يجد البعض الآخر من رجال الدين حرجاً في الاستمرار بفتاوى التكفير وإهدار الدماء وتعليم بعض أنواع تكتيكات العصابات المتعلِّقة بمواجهة القوى الأمنية في الشوارع، بدلاً من العمل الجدّي من أجل تكوين نظريّات ناضجة تتعلّق بحياة الفرد والجماعة من أجل المجابهة الفكرية الراقية.

          هذه هي الحالة “الفكرية” العربية اليوم بشكل عام. وسيتساءل البعض: هل من المعقول أن يكون الجميع هكذا؟ وفي الواقع فالجواب هو لا، لأن الأغلبية الساحقة من القسم الباقي يعيشون في أسوأ حالة من التفاهة الاستهلاكية والسطحية الفكرية، التي لا نجد لها نظيراً في العالم على هذا المستوى من الانتشار. ويمكننا تخيُّل مقدار هشاشة الواقع الثقافي العربي من خلال التصوُّر البسيط بأنّ التفاهة والسَّطحية قد غزت البلدان الأوربية العريقة في القدم، والمتخَمة بالتراث الروحاني والفلسفي والأدبي والفنّي، والتي لديها هذا الكمّ الهائل من الجامعات ومعاهد الأبحاث التي تكدّ في دراسة كل ظاهرة قديمة أو حديثة أو مستقبلية مفتَرَضة في العالم. فما بالنا إذاً بما يحدث في بلدان التجمُّع البشريّ العربي التي أصبحت مليئة بكل أنواع المرفِّهات والتكنولوجيا، وشبه الخالية  من كلّ ما سبق ذكره من روحانيات وفلسفات وفنون تتَّجه لخير الفرد والمجتمع !

          كل هذه الفواجع النازلة بأمّة العرب وغيرها الكثير لم تنجح في ثني قيادات وشعوب وأنظمة وأحزاب وكثيرٍ من مثقّفي هذه المنطقة من الاستمرار باتّهام الآخرين من أوروبيين وأمريكان ويهود وشيوعيين وعلمانيين وملحدين وغيرهم بأنهم سبب نوازل هذه الأمة وكوارثها التي لا تنفكّ تزيد باضطِّراد! 15 قرناً والعرب يعيشون وهم المؤامرة الكبرى التي تُحاك ضدّهم وحدهم من دون باقي الأمم، وكأن الشُّغل الشاغل للإنسانية هو القضاء على العرب، مع العلم أن هؤلاء هم من ابتدؤوا العداء الأبدي مع الجميع، عندما قسموا الأرض إلى دار حربٍ ودار سلام. والعرب اليوم، ورغم تعدادهم البشري الذي يزيد عن 350 مليون بشري، لا يخجلون من اتّهام حفنة من البشر لا تزيد عن ستة ملايين يهوديٍّ يسكنون منطقة من الأرض (هم من باع وتخلّى عن معظمها قبل أن تبدأ أيّ حرب حقيقية)، نصفها شريطٌ ساحليّ ضيِّق، ونصفها الآخر صحراء قاحلة، بأنهم هم سبب كلّ ما يرزحون تحته من كوارث ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية. لذلك نرى كافّة الأنظمة تتذرّع بوجود هذا الكيان البشري الصغير لكي تبقى على رأس السُّلطة، وكافّة المعارضات والثورات تتحجَّج أيضاً به لكي تقذف بالحكّام عن كراسيهم، ومن ثمّ الحلول مكانهم، واتّباع نفس لغة الشِّعارات أو ما يشابهها. وهكذا دواليك في حلقة مفرغة مملّة! كلّ هذه الكوميديا السوداء لا يمكن إلا أن تثير العجب مع بعض عوارض الغثيان في نفس كل مفكِّرٍ حقيقيّ. لقد كذب العرب على أنفسهم، وها هم يعيشون الكذبة ويصدّقونها. بلدانهم تعجّ بالمشاكل التي تعكس سوء إدارتهم وتفكيرهم ونظرتهم لأمم العالم، ومع هذا لا يجدون حرجاً في اتّهام الآخرين. مشاكلهم تزداد يوماً بعد يوم، ومع هذا يصرّون على أنّهم هم من سيحلّ “قضيّة فلسطين”! وإن كان بعض الحكّام قد تخلّوا عن هذه الفكرة، سواء كان عن حكمةٍ أم عن طمع في رضى أسيادهم، فإنَّ الشعوب ما زالت تهذي بفعل العقاقير الفكرية المخدِّرة التي حقنهم بها رجال أديانهم، وحافظ على مفعولها سياسيّوهم الأشاوس! فبات لاوعي معظم “أفراد” البلاد العربية (غير الواعين لفرديّتهم ولا بأي شكل)  المشبَع بثقافة جمعية عمرها 15 قرناً، يظنّ حقاً أن كلّ ما يفعله من إحراز الشهادة العلمية وحتى عدد الأولاد الذين ينجبهم، سوف يخدم “قضيّته المحقّة” والتي هي في النهاية مجرَّد إشباع للحقد التاريخي أكثر من مسألة أرض وشعب، علماً أن هذا العداء التاريخي المستحكم والمستمرّ منذ مئات السنين فريدٌ في طبيعته وسببه، ولا علاقة رئيسية للأرض به. والدليل على هذا هو أنّ العقل الجمعي العربي نسي تماماً قضايا أخرى كان لها السبق والأولوية، بسبب غياب عنصر حقدٍ تاريخيٍّ-دينيٍّ قويّ فيها يضمن استمراريتها.      

          لهذا أرى بوضوح أنّ المنطقة العربية في طريقها لمزيدٍ من الحروب والاقتتالات العسكرية والمذهبية والسياسية والدينية، وهي بذلك تكمل تاريخها الطويل الحافل بهذه الوقائع، وتدفع ثمن غيبوبتها المفتَعَلة للهروب من مشاكلها الإثنية والدينية والثقافية الملحّة، وتدفع ثمن نفاقها أمام ذاتها، وأمام الأمم الأخرى،  طوال هذه القرون في ادّعاء ما لا تملكه من تسامحٍ وقبول للآخر حتى لو كان أخاً أو أباً. يجب على المفكِّرين الأحرار في هذه المنطقة البائسة، الإنسانيين حقّاً، والذين يرون بحقّ أن الإنسان لا يكون إنساناً حقيقياً، ما لم تتوهّج فيه صورة اللوغوس، وغير المتمسِّكين بمشاريع ضيِّقة الأفق لا تنفع الإنسان الفرد،  يجب أن يعلموا أنّ حلم الإصلاح الشامل هو وهم، فالأثمان يجب أن تُدفَع، وإنّ أقصى ما يمكن الأمل به هو أن يجد هؤلاء صيغةً تمكّنهم من تحصيل أكثر ما يمكنهم من حقوقهم وحرّيتهم هنا أو هناك، من خلال نمطٍ ما من اللامركزية، يسمح لكل جماعةٍ من الأفراد أن تعيش حسب مفاهيمها ومبادئها. فإن كانت  “هرمجدون” مصغَّرة من نوعٍ ما قادمة فالأفضل أن يكون هؤلاء في الصفوف الخلفية البعيدة. فالتاريخ له كلمته، وهو لا يتوانى عن إزالة كل ثقافة متناقضة مع ذاتها ومع المسيرة الإنسانية، وكلّما زاد التناقض أصبحت العملية الجراحية التاريخية أكثر عنفاً وتدميراً!

الإعلان

3 comments

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.