حول الديمقراطية وحرية الحياة ومفهوم الإمبريالية- الجزء الأول
بقلم فادي أبو ديب
“الشيء الوحيد الذي تؤمِّنه المجموعة هو إزالة الضمير”
سورين كييركيغارد
ربما يكون مصطلح “الديمقراطية” واحداً من أكثر المصطلحات شيوعاً في أيامنا هذه، وخصوصاً في المناطق التي تتوق شعوبها للتحرُّر من حكوماتها الاستبدادية التي عاثت فساداً وإفساداً طوال عقودٍ طويلةٍ مريرة. وفي الواقع فقد أصبحت هذه الكلمة تدلّ على غير ما تعنيه في الأصل، او على الأقل تشمل معانٍ أخرى لا تتسع لها من حيث المفهوم الأصلي، مثل “حرية التعبير” و”حرية المعتَقَد”.
إلا أنه إذا تأملنا كل هذه المفاهيم وفق ما تعنيه أصلاً سنجد أن الأمور السابقة قد لا ترتبط ببعضها البعض بالضرورة، فالديمقراطية والتي تعني حرفياً، ووفق أبسط أشكالها، “حُكم الشعب لنفسه” لا تضمن مباشرةً حرية التعبير ولا حرية المعتقد، هذا إذا وضعنا في اعتبارنا أن هذين الجانبين من جوانب الحرية لا يعنيان أيّ شيء فعلياً على أرض الواقع بدون حرية السلوك البشري، ولهذا نجد أن كل دساتير الدول تقريباً تشتمل عليهما، رغم أن معظم الدول لا تمارسهما، فاللعب على الألفاظ والمصطلحات المطاطة امرٌ في غاية السّهولة لأنها لا تبيِّن أية تفاصيل عن ظواهرها وأحداثها وكيفية ممارستها.
ما نواجهه اليوم هو غياب محورية الإنسان بشكل شبه كامل في كلّ أنحاء العالم، وأنا أركِّز هنا على معنى “الإنسان”، أي ما يسمّى باللاتينية Homo Sapiens والذي يعني في الأصل “الرجل العارف” أو “الرجل الحكيم” (لاحظوا الذكورية!). فما يتميّز به الإنسان الحقيقي الواعي، هو تلك الصورة الإلهية، ذتلك القدرة المذهلة على ممارسة الإبداع والخلق، والإدراك بأنه موجود، وبأن “وجوده” كفرد يجب أن يعني الكثير. فكل فرد يريد أن “يعرف” من هو ولماذا هو موجود، وما هو موقفه من الجماعة التي يريد أن يكون جزءاً منها، والتي يجب أن تحترم خياراته وكيانه الفردي ضمنها مقدِّماً لها قدرته بطواعيةٍ خالصةٍ محبّة لا تخضع لمفهوم الواجب القسري الذي يفرِّغ كل فِعل من معناه ويحوِّله إلى عملية ميكانيكية فارغة.
هذا المفهوم للإنسان غير موجود في عصرنا الحاضر، لماذا؟ لأنه ببساطة عصر الرقميات والتكتّلات القطعانية والديمقراطية! فالديمقراطية تقوم على حُكم الأغلبية، فتعتبر أن الأغلبية (حتى لو كانت النصف زائداً واحد) لها كامل الحقّ في التشريع وسنّ القوانين في إطارٍ جغرافيٍّ ومجتمعيٍّ ومؤسساتي معيّن يُسمّى “الدولة”، وبالاستناد إلى مجموعة مبادئ ساسية تسنّها الأغلبية تُسمّى “الدستور” الذي عادةً كما يصبح أكثر قداسةً من الإنسان الذي وضعه والذي وُضِع لأجله. أساس الديمقراطية يفترض نظرياً أو عملياً أن الأغلبية هي التي تمتلك الحقيقة، أو الجزء الأكبر منها، ويحقّ لها أن تقرِّر أو تفرض قراراتها على الجزء الباقي من المجتمع. ولكن هل هذه حقيقة واقعة؟
لن أعطي إجابةً جازمة، ولكن يكفي أن نتذكّر بان كثيرين من كبار المفكِّرين والفلاسفة كانوا أعداء لظاهرة “الجماهيرية”، إن صحت التسمية. فالمفكِّر الفرنكوسويسري جان جاك روسو يعتبر أنه من غير الممكن أن يكون المرء مواطناً وإنساناً في الوقت عينه “فإما الطبيعة وإما المقولات الاجتماعية” (كتاب إميل، ص 28، ترجمة د.نظمي لوقا) حيث أن المقولات الاجتماعية هي صناعة الأغلبية التي تضع الأعراف والقوانين الشفاهية والمكتوبة. وسورين كيركيغارد أبدى عداءه الشديد للمفاهيم التي تعتنقها الحشود، مساوياً بين الجماهير واللاحقيقة، ومعتبِراً أن الانصياع للجماهير وتملّقها هو أسوأ من امتهان البغاء، اما المفكِّر وكاتب المقالات الروسي آحاد هاعام فقد اعتبر أنّ “كل تجمّعٍ من البشر يملك نفساً ذات نوعيّة أقل من تلك التي يمتلكها أفراده” وأنّ حياة الإنسان العادي أو المتوسِّط ” خالية إلا من تقليده للجمهور الذي يشكِّل هو جزءاً منه”. فالديمقراطية لا تقدِّم سوى وجهة نظر الأغلبية التي ليست بالضرورة أن تكون صحيحة، وأنا أعتقد بأن الأغلبية غالباً ما تجانب الصواب (الذي أؤمن بوجوده)، لأن الأغلبية دائماً تبحث عن الخيارات الأسهل والأكثر ربحاً، وهي حتماً لا تبحث عن الحقيقة والإنسانية، لأنها لا تعرفهما ولا تدرك وجودهما. فمن الأسهل للأغلبية ان تدعم نظاماً يؤمِّن لها المدارس المجانية أكثر من نظامٍ يضع كل فرد أو عائلة أمام مسؤوليتهما في البحث عن المعرفة التي يتمنّيانها، ومن الأسهل لها أن تدعم نظاماً يستثمر الأراضي، ويوظِّف أولادها فيها، قاسماً لكل منهم جزءاً ضئيلاً او متوسطاً من الأرباح، من أن يسعى كل فرد أو عائلة إلى امتلاك الأرض والعمل وإنتاج ما يريدون. فالشخصية الاعتبارية التي تمثِّل الأغلبية لا تهتم لمفاهيم مثل حقيقة الوجود، هدف الإنسان الأساسي، إنسانية الفرد، جمالية التشارك بين كافة الأفراد، أولوية تحقيق الذات الداخلية، مركزية الحب بين أفراد الظاهرة الإنسانية وما إلى ذلك، بل تجد أنه من الأجدى أن تعيش من أجل الكسب السريع والمال والأضواء الملوَّنة والحياة الترفيهية المريحة الخالية من المعنى. وعلى كلّ حال هذا هو حال البشر منذ وُجِدوا، والديمقراطية هي إحدى أجدى الوسائل في نشر السخافة، وبطريقة قد تكون أكثر فعاليةً من الأوتوقراطيات الاستبدادية، وخصوصاً إن صادف وكان الديكتاتور مفكِّراً أو فيلسوفاً أو مهووساً بنظرية يوتوبية قد يسفك من أجلها الكثير من الدماء والقليل من تفاهات ثقافة السوق!
قد يهتمّ كلّ فردٍ- أو مجموعة صغيرة من الأفراد- بكل تلك المعاني الأصيلة والإنسانية المذكورة آنفاً، ولكن بمجرَّد اجتماع الأفراد بطريقة القانون القطيعي سوف يفقد كل منهم مبادئه أو يساوم عليها، أو يُحرم منها قسراً ويتعذّب لأجلها، لأن كلّ ما حوله يدعوه لتركها في سبيل مصلحة تفاهة السوق الجمعيّ.