حول الديمقراطية وحرية الحياة ومفهوم الإمبريالية- الجزء الثاني


بقلم فادي أبو ديب

كلّ ما سبق لا يعني بسذاجة أن خطأ الأغلبية يضع الصواب في جانب القسم الآخر من اللعبة الديمقراطية، لأن خطأ الأغلبية ليس في ماهية مبادئها بالضرورة، بل في أسلوب وضع هذه المفاهيم كحقائق مطلقة. لنأخذ مثالاً واقعياً وصريحاً من لبنان: فحزب الله ينتهج منذ سنوات سياسة المقاومة الحربية ضد إسرائيل ومعه قسم من اللبنانيين قد يشكِّل أغلبية في وقتنا الحاضر. موقف المقاومة الحربية بحد ذاته قد يكون صحيحاً من حيث المبدأ النظري، ولكن طريقة فرضه على القسم الآخر خاطئ لا محالة، فمن حقّ من لا يريد الحرب ألا تُفرَض عليه الحرب، فليس لأحد أن يقرِّر الحرب عن أحدٍ آخر، وخاصة أن جزءاً مهماً من المجتمعين الإسلامي والمسيحي هناك يجدان أن بنيتيهما العقائدية والاجتماعية والاقتصادية غير مركَّبة بحيث تخدم حالة حرب واستنفار دائمة. هذا طبعاً لا يعني أن القسم غير الراغب بالحرب لديه الحقيقة المطلقة. الموضوع موضوع شرخ ثقافي وقِيَمي عميق لا يمكن إصلاحه لأنه ينطلق من خلفيتين أيديولوجيتين غير قابلتين للالتقاء. الحل قد يكون هنا في حُكم كل مجموعةٍ لذاتها، وهنا يمكن الاختيار بين الفيديرالية والكونفيديرالية بحسب عُمق الشَّرخ الحاصل الذي لم يمكن إصلاحه بالحوار غير الممكن أصلاً حول العديد من الأمور التي تُعتَبَر خطوطاً حمراء من قِبَل هذا الطرف أو ذاك.

 

          الفيديرالية والكونفيديرالية هي حلولٌ فيها شيء من الاحترام للإثنيات والمجموعات المختلفة التي تختار طريقة حياتها بصورة مختلفة كلياً، وهي الحل الوحيد للمناطق المنوَّعة، بعيداً عن الأوهام غير الواقعية للاتفاق والتوحُّد. تاريخياً لم تعرف المناطق شديدة التنوُّع إثنياً وعرقياً ودينياً أيّ نوعٍ من السلام الدائم إلا بعد قضاء أحد الأطراف على أحدها الآخر. هذا تاريخٌ مؤسف ولكنه حقيقيّ، فالسلام والتعايش كانا حالتين مؤقَّتتين لم تدوما طويلاً، لا في آسيا الوسطى ولا في آسيا الصغرى ولا في شمال أفريقيا ولا في القوقاز ولا في البلقان ولا في سوريا الطبيعية ولا في فارس ولا في العراق ولا في شبه جزيرة العرب. هناك عجزٌ إنساني حقيقي ومؤسف لحل هذه القضايا بشكل جماعي ودائم، لأن التعايش يتطلّب مستوياً عالياً من الوعي، انطلاقاً من الفرد وصولاً للجماعة، وهذا غير ممكن واقعياً على المستوى الجماعي الشّامل إلا وفق سلطة قانون قسريّ.

           النموذجان السابقان كفيلان كمرحلةٍ أولى بنبذ ما يمكن تسميته بالإمبريالية الداخلية التي يمارسها المركز على الأطراف، فكلّ مجموعةٍ أدرى بنفسها، وليس لأحدٍ الحقّ في مصادرة طريقة حياتها الذي تختاره لنفسها. إنّ مبدأ “الإمبريالية” موجودٌ في داخل كلّ دولةٍ مركزية يتحكّم فيها مركزٌ معيّن بغيره من المجموعات البشرية المنتشرة عبر البقاع التي احتلّتها سلطات هذا المركز في مرحلةٍ تاريخيةٍ ما منذ زمنٍ قريبٍ أو بعيد. وفي الحقيقة لا يمكن لدولة أن تتهم غيرها بممارسة السياسة الإمبريالية (الإمبراطورية)، أولاً لأن كل دولةٍ تمارس الشيء ذاته مع جيرانها متى استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وثانياً وهو الأهم، لأنّ كل دولةٍ شديدة المركزية تمارس هذه السياسة بحقّ ملايين  البشر الذين يصرفون حياتهم كعبيدٍ للقوانين التي تسنّها الأغلبية التي تتمركز في المركز، والتي تتحوّل حتى في أشد الدول ديمقراطيةٍ إلى نخبة حاكمة بعيدة عن الفرد والجماعة. فبذرة الإمبريالية إذن موجودة في مفهوم الدولة المركزية، وفي مفهوم الكتل السياسية الموحَّدة التي يتحكّم فيها طرفٌ بالأطراف الأخرى ديمقراطياً أو أوتوقراطياً. فإذا شرّعنا للمنتَخب ديمقراطياً حقّ سنّ القوانين لأنه صاحب العدد الأكبر من الأتباع، يمكننا بنفس الطريقة تشريع تحكّم دولة ما بدولٍ أخرى، على اعتبار أن هذه الدولة المسيطرة ذات ثقافةٍ أو أخلاق أو حضارة أكثر رقيّاً واستحقاقاً للانتشار!

          سيسأل سائلٌ- وهو محقٌّ في هذا- ألا يمكن أن تتحول الفيديراليات أو الكونفيديراليات إلى ديمقراطيات أصغر تمارس فيها الأغلبيات نوعاً لآخر من الديكتاتورية؟ والجواب هو: نعم بكل تأكيد! فالفيديراليات لا ينبغي أن تتوقف عند حدود المناطق الكبرى بل أن تكون تنزل إلى مستويات أصغر حتى البلديات مثلاً، بحيث يصبح لدينا في النهاية مجموعات صغرى من التجمّعات التعاونية الصغيرة العاملة، والمتعاونة بدورها مع التجمّعات المحيطة، عبر أسلوب يحقِّق للفرد دوراً أكبر شيئاً فشيئاً. ومن البديهي أن العدالة الاجتماعية يمكن تطبيقها بسهولة أكبر كلما صغرت الرقعة الجغرافية والديموغرافية (السكّانية). وعلى المفكِّر العاقل هنا أن يختار بين الإنسان والأحلام الوطنية والقومية، أي بين الإنسان والأرض، بين الرّوح الحيّة والوثن الجامد!

          بعض القومويين والوطنيين سيجدون في هذا دعوةً لمايسمّونه هم “شرذمة” و”تفتيت للأوطان” وما إلى ذلك. ولكن لا يجب أن ننسى أن عبارات مثل “الأوطان” و”الوحدة الوطنية” وغيرها هي كلها عبارة عن مفاهيم نسبية تقوم على افتراضات تاريخية وفِكرية نظرية موجودة عند أصحابها فقط، وهي قد لا تعني شيئاً على أرض الواقع. فالمقدَّس الوحيد هو الإنسان، وما يحقِّق أكبر قدرٍ ممكن من مصلحة الإنسان الفرد ومن ثم الجماعة هو ما يجب أخذه بعين الاعتبار فعلياً، وليست المفاهيم والعصبيّات والفرضيّات والنظريّات القائمة في معظمها على أسسٍ من الكبرياء القومي العنصري في كثيرٍ من نواحيه، وعقد النقص المتعلِّقة بالتسميّات والهويّات، والتي في معظمها نشأت لظروف تاريخية مؤقتة زالت بعض أسبابها أو ربما استمرت، أو لأسباب تتعلّق بالفخر القومي- العشائري الموسَّع أو القومي- الدينيّ، والمُنشأ خصّيصاً نكايةً في القوميات الأخرى (العشائر الكبرى الأخرى)، والتي ترمي من حساباتها أي قيمةٍ فعلية لكل إنسانية الفرد “العارف”.

          القوميات أساطير أساسها قبيلة معيَّنة أو مجموعات من القبائل القديمة التي سكنت مكاناً واحداً في ظرف تاريخيّ ما، والأوطان هي مكان استيطان هذه الأقوام أو تلك، والتاريخ يعلِّمنا أن القوميات تصل إلى أوجها في مراحل معيَّنة ثم تقترب من الزوال في مراحل أخرى. وهكذا هي الأوطان أيضاً، فاليوم قد تكون هذه الأرض وطناً لهذا الشعب وغداً قد تصبح لذاك. لا أحاول أن أقول أنه ليس لأحد أيّ حقٍّ في أي أرض، ولكن ما أحاول قوله هو أن العصبيّة الوطنية والقومية شعورٌ لا داعي حقيقي له. أليس المغول اليوم منعزلون شمال الصين بعد أن كان وطنهم (الذي احتلّوه لمئات السنين) يمتدّ حتى ساحل المتوسّط؟ أليس اليونانيون اليوم يسكنون اليوم في دولتهم الصغيرة بعد أن كانت آسية الصغرى وأجزاء من سوريا ومصر مواطن لهم ولثقافتهم ولغتهم لقرونٍ طويلة؟ وهل المغرب العربي وطنٌ للعرب أم للأمازيغ في يومنا الحاضر؟ ونفس  السؤال يمكن ان نوجهه بشأن أجزاء واسعة من العراق وسوريا وتركيا وإيران سكنها ويسكنها السريان والأرمن والأكراد لآلاف السنين. وإذا كانت هذه البلاد وطنٌ لكل هؤلاء معاً، فما الداعي لربط الأرض بقوميات معيَّنة إذن؟ أين الوطن الحقيقي لقبائل القوط والفاندال والأنكلوساكسون؟ هل يمكن ان نقول اليوم للساكسوني الذي يسكن إنكلترا أو إيرلندا اليوم “عد إلى وطنك الأصلي؟”. الوطن هو المكان الذي نستوطن فيه. تبقى طبعاً مشاعر الحنين لما كان يوماً وطننا أو وطن أجدادنا، ولكنه ليس حنيناً للأرض، إنه حنينٌ لخيالاتنا عن ما يمكن أن يكون لو كنّا في تلك البقعة من العالم، إنها رغبةٌ في عالمٍ ننشئه في خيالاتنا، كاملاً جميلاً هرباً من مآسينا الحالية. الوطن يمكن أن يكون أيضاً اشتياقاً لذاتنا وذكرياتنا في مكانٍ ما أحببناه مع مجموعةٍ معيّنة أحببناها في مرحلةٍ معيّنة من عمرنا. الحنين إلى الوطن هو حنينٌ إلى ذاتنا، للحظاتٌ نقّتها ذاكرتنا من كل الشوائب والهموم والأحزان لتبقى منها صوراً مضيئة فقط مع “موسيقا خافتة” تدندنها قلوبنا مع “شريطنا العقليّ المصوَّر”. لا أدّعي أن هذه المشاعر غير حقيقية وغير مبرَّرة، ولكنها فقط هي الحقيقية، أما الأوطان الجغرافية فهي محض أوهام تشغل المجموعات البشرية عن مصلحة أفرادها والرقيّ بإنسانيتها، فتستغلّ أفرادها وتقتل إنسانيتهم لمصلحة قطعٍ من الأرض المشبَعة بدماء هؤلاء الأفراد!

الجزء الأول على هذا الرابط

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.