انظروا في أعينهم !!


بقلم فادي أبو ديب

“ما يلي ليس تبريراً لأيّ جريمة يجب معاقبتها بحسب القوانين الإلهية والأخلاقية، بل مجرَّد نظرةٍ أخرى إلى بشرٍ من كل الأطراف والأطياف بدأنا ننسى أنّ لهم أسماء، وأن هنا أعلم أنني يمكن أن أنال الشتائم من كل الأطراف!”

في خضمّ الأحداث الأليمة التي تعصف بسوريا، يروعنا كلّنا كمّ الدّماء الهائل الذي يُسفَك يومياً، بقصدٍ أو بغير قصد، مع كل ما يحمله هذا من ألمٍ يطبق على صدر الإنسان السّاكن في هذه البقعة من العالم. ومع مرور الوقت وازدياد عدد القتلى، يصبح الموتى أرقاماً بالنسبة لنا، نحن الذين تعوّدنا على الأخبار والمناظر المؤلمة. ونغدو كلّنا معرَّضين إلى النظر إلى المشهد السوري، متعاطفين مع هذا أو ذاك، وشاتمين من حيث نشعر أو لا نشعر هذا الطرف أو ذاك، وهكذا يصبح تعاملنا مع بعضنا، ومع الآخرين البعيدين، واقعاً تحت تأثير ظاهرة “التشييء”، أي التعامل مع الإنسان الآخر كمجرَّد شيء، أو رقم من مجموعة نطلق عليها اسماً أو لقباً معيَّناً، ثم نتخيّل لها صورة معيَّنة، ونصمها للأبد بما نريد من صفات حقيقية أو غير حقيقية، ثم “نشيطنها”، وقد غاب عن أذهاننا بأن هؤلاء الناس هو بشر مثلنا، يحبّون، ويبكون، ويضحكون، وبعضهم ربما عرفناه سابقاً، أو نعرفه حالياً، أو كان زميلاً في المدرسة، أو تشاركنا معهم في شرب الشاي في مساء يومٍ ما حول المدفأة أو على سطح منزلٍ في بقاعٍ مختلفة من بقاع هذا البلد.

        هؤلاء نحن البشر: نحبّ كثيراً، حتى الهيام، ولكننا نكره كثيراً كالشياطين! بارعون في تصوير من نحبّ كملائكةٍ كاملين، ولكننا محترفون أيضاً في تخيُّل من نكره كشياطين مجرَّدين من كلّ ذرّة إنسانيةٍ يشاركوننا به.

دعونا نتجرّأ وننظر إلى الأمور بطريقةٍ أعمق من السّطحيّة التي كثيراً ما ننظر بها إلى الأمور، إما لأننا ننساق وراء وسائل الإعلام التي “تعيش” و “تتعيَّش” من نقل الأخبار وإلصاق الصفات، أو لأننا نريد أن نتخلّص من هول مسؤولية النظر لكل إنسان مهما كان كما يستحق كإنسان فردٍ حقيقيّ على صورة الخالق. فهذه المسؤولية تجعلنا أسرى المحبّة والتعاطف مع الإنسان الآخر والحزن لأجله، أي تجعلنا أسرى الإنسانية، وما أصعبها في مقابل سهولة مجرَّد الاصطفاف مع طرفٍ ضد طرفٍ آخر، مع إنسانٍ ضد إنسانٍ آخر!

        نسمّيهم “شبّيحة”، “مسلَّحين”، “إرهابيين”، “قمعيين”، وغيرها العشرات من الأسماء التي نطلقها على هذا الطرف أو ذاك. ولكن هل فكّرنا يوماً أن ننظر في أعين هؤلاء الأفراد، وأن نفكِّر بهم كبشرٍ مثلنا تماماً من حيث الحاجات والمشاعر؟ هل نفكّرنا مرّةً بأنهم شبابٌ مثلنا، لهم آباء وأمّهات وأخوة وأخوات وزوجات وأحبّة؟ هل نجرؤ على التفكير بمبرِّرات لهم؟ ما الذي يدفع أحدهم إلى قتل شخصٍ آخر مقابل مبلغٍ زهيد، لا بل مضحك، من المال؟! ما الذي يدفع شابّاً في ريعان صباه إلى ترك قريته أو مدينته، لكي يحمل السِّلاح طوعاً، وأحياناً بدون أيّة فائدةٍ مادّية تعود عليه، معرِّضاً نفسه للموت في مكانٍ بعيدٍ عن أهله الذين ينتظرونه بقلقٍ ورعبٍ؟ هل تصدِّقون أن إنساناً يمكن أن يعشق القتل ومنظر الدِّماء؟!

ربما يحتجّ أحدهم بأن هؤلاء موجودون، وهذا صحيح. فيمكن أن يكون أحدهم لديه من الشذوذ النفسي ما يدفعه للاستمتاع بالقتل، ولكن هذه أمراض نادرة. أما الآلاف الذين يحملون السلاح اليوم فهم مساكين، مشبَعون بالقلق والكراهية الناتجة عن الجهل والخوف من الآخر. لا تصدِّقوا أنّ هؤلاء الشباب يعشقون القتال. نعم، بينهم قلّة لديها حسابات وارتباطات متشعِّبة، ولكن الأغلبية الساحقة منهم هي ضحيّة للخوف والرّعب. لا تصدِّقوا أن أحداً منهم يفضِّل حمل السلاح ونصب الحواجز في الأزقة والشوارع على الجلوس في بيته آمناً يحتسي الشاي ويلاعب أولاده أو يتسامر مع أصدقائه. لا تظنّوا بأنّ هذا “المسلَّح” أو ذلك “العنصر الأمني” يعشق التجوال ليلاً ونصب الكمائن، متعرِّضاً في كلّ ثانيةٍ لرصاصةٍ من هنا أو قذيفةٍ من هناك.

        عندما يحارب المرء لأجل قضيّةٍ فإنه يحارب لأجل فكرة، وضدّ فكرة، وليس ضد الإنسان، أو المذهب أو الطائفة  كشخصٍ اعتباريّ. وفي المبدأ، الإنسانية الحقّة تعني دائماً الحوار. لا أعترف بقتالٍ حتى الموت، ولكن بحوارٍ حتى الموت. فهذا ما علّمنا إيّاه المعلّم الجليلي يسوع الناصري الذي صلّى لأبيه حتى يغفر لصالبيه حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وحاور بيلاطس وقيافا والخادم الذي ضربه على وجهه حتى وهو مجروحٌ ومكبَّلٌ بالسلاسل والحبال.

 والذي قال له يسوع حينها: “إن كنتُ قد تكلّمتُ رديّاً فاشهد على الرديّ، وإن حسناً فلماذا تضربني؟”

 من يرفض مبدأ الحوار مع أيّ شخصٍ أو جهة فهو يتخلّى عن جزءٍ من إنسانيته، لا بل ربما عن إنسانيته كلّها!

دعونا لا نكره الأشخاص، فكلٌّ منهم إنسان مهما أخطأ وارتكب من السلوكيات أو الجرائم. فالإشارة إلى الخطأ أو الجريمة لا يعني إدانة الإنسانية التي فيه أو شتمها، ومعاقته لا تعني رميه في سلّة المهملات، بل تعني محاولة إصلاحه وإصلاح ما أفسده في النفوس والممتلكات. ولكننا نجد أنه من الأسهل رمي التُّهم والصِّفات والأحكام الجماعية، وقد كنتُ أوّل الفاعلين مراراً.

لا يوجد “شيء” اسمه “إرهابي” أو “شبّيح”، بل هناك بشر وفقط. دعونا ننظر في أعينهم عندما نراهم على الشاشات، أو في الطرقات وهم ينتظرون المجهول في فترات الانتظار الطويلة اللامنتهية لنرى أنهم بشر يتألّمون ويبكون ويحبّون ويخافون، فحتّى “ملخوس” الذي خرج للقبض على يسوعٍ الناصريّ استحقّ بأن تردّ أذنه المقطوعة إلى مكانها، وأن ينال نظرةً معزّية لطيفةً!

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.