لا ريب في أن احترام رأي الغير هو موقفٌ ينبغي الاعتياد على اتخاذه وممارسته في العديد من المواقف الحياتية التي نعيشها. وإذا كان هذا ينطبق على بعض التفاصيل اليومية الصغيرة فلا شكّ بأنه ضروري جداً عند الخوض في المواضيع النقاشية الكبرى والمتعلِّقة بالأمور السياسية والثقافية والاجتماعية واللاهوتية. ولكن هذا الاحترام لا ينفي النقاش الجدّي للأفكار، لا بل أيضاً المصارعة من أجل إضعاف أو دحض بعض الآراء في كل هذه المجالات السابقة الذِّكر وغيرها؛ فمثلاً، على الصعيد الاجتماعي، علينا أن نحترم من يظنّ بأن الحجاب فرضٌ على المرأة، ولكننا في ذات الوقت نكافح من أجل حريّة المرأة، كما نكافح أيضاً من أجل عدم فرض هذا الرأي، لما له من انعكاسات وتطوّرات سلبية خطيرة تلحق به. أما سياسيّاً فإنه من واجبنا احترام رأي من يدعو إلى اعتناق الرأسمالية الليبرالية (النموذج الاقتصادي الأمريكي الذي تحكمه الشركات العملاقة)، ولكن في ذات الوقت علينا ألا نكفّ في إصرارنا على عدم تحويل حياة البشر إلى عبوديةً مسيَّرة في يد من يملك المال والسُّلطة. فكثيرةٌ هي الآراء التي لا تحمل ضرراً في حدّ ذاتها، أي على المستوى النظري، إلا أن تطبيقاتها أو ما يتبع تطبيقاتها لاحقاً قد يسبِّب الضَّرر والخراب؛ فليس ضارّاً، على المستوى الفردي وربما الجماعي، أن يظنّ أحدهم- مجرَّد الظنّ- أن على المرأة ارتداء الحجاب، أو أن النموذج الرأسمالي غير المقيَّد هو الأفضل، أو أنّ الرّوس مثلاً أو البلغار أفضل من الألمان أو البولنديين؛ فالضَّرر الحقيقي هو في تطبيقات المواقف السابقة والتي ستؤدّي غالباً إلى احتقار المرأة أو إجبارها على السلوك بطريقةٍ معيَّنة، وستعطي شرعيّةً لسلوك الشركات بطريقةٍ تهين الفرد وتستعبده، وستجعل من يعتقد بأفضلية شعبٍ معيَّن يمارس التفرقة والعنصرية وربما يصل به الأمر إلى القتل والإبادة الجماعية في حال تطوّرت الأمور، كما حدث مراراً وتكراراً عبر التاريخ. وبالمختصر فعلينا أن ننتبه جيداً إلى القضية البسيطة التي يطرحها عنوان كتاب ريتشارد ويفر Richard Weaver وهي: “الأفكار لها عواقب Ideas have consequences”.
والمبدأ نفسه ينطبق طبعاً على القناعات الدينية واللاهوتية، ولهذا أرى أن تقسيم العقائد إلى أوّلية وثانوية هو عمليةٌ تكون في كثيرٍ من الأحيان غير دقيقة، وهي تتبع لمرجعياتٍ تاريخيّةٍ كان لها أسبابها الطارئة؛ فبناءً على هذا التقسيم تمّ نبذ العديد من المفاهيم ونصوص الكتاب المقدَّس المتعلِّقة بها على أساس أنّ بعض الشخصيات التاريخية قد صنّفتها على أنها ثانوية، أو على أساسٍ نفعيٍّ براغماتي يأخذ بعين الاعتبار عدم القبول الذي قد تواجهه الجماعة المسيحية في هذا المجتمع أو ذاك. وعلى كلّ حالٍ فإن هذا هو ديدن المؤسسة الدينية الرسمية على اختلاف أشكالها ومذاهبها؛ فحتى تاريخياً، كانت قلّة قليلة من الأفراد والجماعات تُخلِص في سعيها الجادّ للمعرفة والبحث والتنوُّر وقراءة الأمور بدقّة وشجاعة. كما أنه يجب الإقرار بصعوبة الحيادية في قراءة بعض النصوص الكتابية، وهذا ينطبق بالطبع على بعض آباء الكنيسة الكبار مثل يوحنا الذهبي الفم وأوغسطينوس وغريغوريوس النيصّي ومارتن لوثر وجون كالفن، والذين لعبت حساسيتهم وربما كراهية بعضهم الشديدة لليهود دوراً بارزاً في “روحنة” بعض النصوص التي تتحدّث عن النبوءات المختصّة بالأيام الأخيرة وما لبني إسرائيل من علاقةٍ جليّة وواضحةٍ بها، وذلك بحسب عشرات النصوص التي تتحدّث عن الموضوع وتفاصيله في كلي العهدين القديم والجديد من الكتاب المقدَّس.
وبناءً على ما سبق، نستطيع أن نتوقّع أن وضع الأمور الإسكاتولوجية (المتعلِّقة بأواخر العالم ونهايته) في مرتبة ثانوية وخاصّة من ناحية بعض تفاصيلها قد يكون نتيجةً لبعض الاعتبارات السياسية (كما هو الحال في البلدان العربية التي تتعامل بحساسية بالغة في كل ما يتعلّق بالشعب العبري)، أوالثقافية (المتعلِّقة بالرغبة في مجاراة الطرق الحداثية والنقدية الأكاديمية في التفسير والدِّراسة)، أوالاجتماعية (المتعلِّقة بعدم رغبة المجتمع في الاهتمام بالتفاصيل المستقبلية)، وربما العنصرية العِرقية حيث أنّ الكثيرين يرون أنّ وجود خطّة للشعب العبري في نهاية الدَّهر الحاضر هو إنقاص من قيمة الشعوب الأخرى! وعادةً ما ينسى أصحاب هذا الرأي الفصل الحادي عشر من رسالة بولس الرسول لأهل روما الذين كانوا يعانون من ذات المشكلة العِرقيّة؛ وهذا ما سنأتي للحديث عنه بالتفصيل في دراسة مستقبلية، كما ينسون أيضاً أنه وحسب قاعدتهم نفسها يصبح الخلاص بالمسيح مشكلةً “عنصريّةً” بنظر اتباع الأديان الأخرى والملحدين، على اعتبار أن الرب حصر الخلاص بتلاميذ المسيح فقط !!
وفي الواقع فإنه ورغم احترامنا لكل المدارس الرئيسية التي تشرح الأمور الأخيرة، إلا أننا وفي ذات الوقت لا يمكن إلا أن نبيِّن مخاطر بعض الآراء على الجماعة التي تتبع يسوع المسيح، والتي تريد أن تعيش بحسب طريقه في هذا العالم. وهنا سنتخذ من فكرة الإيمان بظهور ضد المسيح المتمثِّل بشخصٍ (أو مجموعة) يقود حكومة عالمية موحَّدة مثالاً على مخاطر بعض الآراء الأخروية، والتي هي غالباً ما تقلِّل من قيمة هذه الفكرة وربما تنفيها جملةً وتفصيلاً.
واحدٌ من أخطر الآراء التي تعالج هذه التفاصيل هي ما يُسمّى بمذهب اللاحق للألفية Post-millennialism وهو الرأي القائل بمجيء المسيح بعد 1000 عام (رمزية أو حرفية) تسود فيها الكنيسة أو التعاليم المسيحية في كل أنحاء الكرة الأرضية.
قد يحتجّ البعض بأن هذا موضوع ثانوي في الإيمان المسيحي. وقد يكون هذا صحيحاً على بعض المستويات الفردية لبعض البسطاء من المؤمنين المتناثرين هنا وهناك ممن تداعب مخيِّلتهم المُحبّة والمتعَبة أحلام سيادة الإيمان الحقيقي في كافّة أرجاء المسكونة؛ إلا أن اعتناق المؤسسة الدينية وبعض الأفراد المؤثِّرين لهذا المعتقد له تطبيقات خطيرة للغاية.
في البداية يجب التذكير بأصول هذا المعتقد، فهي تعود بصورة أساسية إلى القرن الثامن عشر، مع بروز النهضات الإنجيلية في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وقد اعتنقها العديد من المبشِّرين العظماء المعروفين من أمثال جون ويسلي وجوناثان إدواردز وماثيو هنري وغيرهم، والذين يبدو أنهم استبشروا خيراً بالفتوحات الجغرافية والعلمية الجديدة في الشَّرق والغرب وما صاحبها من ازدهار وتقدُّمٍ في كافة المجالات. إلا أن قناعتهم تلك لا يمكن أن تكون مبنية على أساسات كتابية قوية، بل على عواطف وتأثّرات بالمظاهر الخارجية للنهضات التي كانت تحصل، أو هكذا قيل!
فالعهد الجديد واضحٌ جداً بشأن كون المؤمنين قلّة مضطهدة لأن “كثيرين يُدعون وقليلين يُنتَخبون” (متى22: 14) ولأن “جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطَهدون” (2 تيموثاوس3: 12)، فالباب الذي يؤدي إلى الحياة ضيّقٌ وقليلون الذين يجدونه كما يقول يسوع المسيح نفسه ففي متى7: 14. وهذا يوجب أن يكون المؤمنون قلةً في هذا العالم الذي يتحدث يسوع بإسهاب عن الافتراق بينه وبين الملكوت؛ فهو يشرح في عدة مواضع من إنجيل يوحنا عن عدم فهم واضطهاد العالم لتلاميذه. كما يتحدث في إنجيلي متى ولوقا عن الضيقات والمآسي التي ستلاحق المؤمنين به على مرّ الأزمان. والكتاب المقدَّس يتحدّث في غير موضع، في العدين القديم والجديد، عن ظهور إمبراطوريةٍ عالمية ذات قيادةٍ موحَّدة، ولعلّنا اليوم أوفر حظّاً من المفسِّرين الأوائل الذين ربما وقع بعضهم ضحية عدم تصديق ما يقرؤون، فنحن نرى كل هذه الأمور تتكوّن أمامنا فعلياً.
إلا أن أصحاب الرأي المعتقد بالمجيء اللاحق للألفية وهم من المبشِّرين بالنهضات الجماعية ينسون بأن حلمهم بالديانة العالمية السائدة، والمحكومة طبعاً من قبل مؤسسة دينية واحدة، أو ائتلاف عدة مؤسسات، لا يمكن أن يحصل إلا بالترافق مع قوة سياسية واقتصادية واحدة تحكم وتنظِّم العالم بيدٍ من حديد. وهم بهذا، ومن حيث لا يدرون، يرسمون صورةً شبيهةً جداً لما يتحدّث عنه الكتاب المقدَّس في الفصلين الثاني والسابع من نبوءة دانيال، وفي الفصل الثالث عشر من سفر رؤيا يوحنا. فالكتاب يتحدّث عن مملكة عالمية مكوّنة من ائتلافٍ من نوع ما (عشرة ملوك)، يحكمهم شخص قوي (القرن الصغير في دانيال 7 ورؤيا 13)، سيكون هو من سيقف في هيكل الله (الفصل الثاني من رسالة تسالونيكي الثانية)، وربما سيحقق السلام والازدهار مما يجعل الكثيرين ينخدعون به، لا بل يطلبونه ويريدون سمته وعلامته؛ إلا ان الفرق هو أنّ الكتاب المقدَّس يقول بأنّ هذا الوصف ينطبق على مملكة الأثيم ضد المسيح !!
إنّ المؤسسات الدينية الكبيرة القوية والساعية بكل جهدها إلى صناعة “عالمٍ مسيحي” ترمي نفسها في مستنقع المساومات مع الأديان الزائفة. كما انها معرَّضة أكثر من غيرها لقبول المظاهر الدينية المزيَّفة، طالما أنها شديدة الرغبة في رؤية عالمٍ تسوده المسيحية أو تسود فيه بعض القيم الأخلاقية المسيحية ! هذه المؤسسات معرَّضة لخطر الانجراف نحو أيّ ائتلافٍ دينيّ عالميٍّ مزيَّف طالما أنها تتوهَّم أنّه سيحقِّق لها ما تحلم به من نفوذ وتأثيرٍ وسيطرة فكرية وروحية، وبالتالي مكانة سياديّة اقتصادية وسياسية، وهذا ما يُعرف اليوم بالـ Dominionism والتي يمكن ترجمتها بـ”السِّيادويّة” (من لفظة “سيادة”)، وخاصّة أنّ إيمانها هذا ينفي في الوقت عينه فكرة ظهور ضدٍّ للمسيح في هيئة شخص يحكم العالم على رأس منظومةٍ عالميّةٍ موحَّدة بدأنا اليوم في رؤية بوادر ظهورها.
وبالمختصر المفيد إن هذا الرأي الذي نحترمه على المستوى النظري مؤهَّلٌ بشدّة لأن يكون عاجزاً عن رؤية تجلّي الشرّ القادم (هذا إذا لم يكن هو من صنّاعه!)، والوقوع فريسةً للانخداع بدعاوي ومظاهر الازدهار والسلام العالميين، لأن حلم المعتقدين بهذا الرأي يشابه ويناسب مظهر مملكة ضد المسيح التي نرى بوادر صعودها بوضوحٍ لا يخفى على كل ذي قلبٍ مبصرٍ.