بقلم فادي أبو ديب
بعد القدّاس العظيم الذي جمع كهنة بعل من كافّة أنحاء الأرض، خرج هؤلاء مع الشعب، يرقصون ويغنّون ويصرخون فوق جثث القتلى. كان صوت الكاهن العظيم يصرخ “بعل هو الحامي، بعل هو المعطي”. والشعب يزداد جنونه وصراخه.
في غمرة احتفالات البغاء الفكري المقدَّس، وقف إيلياهو على جبل السنديان القريب من مدينة “إيليبعل” يراقب القطيع الهائل المتجمِّع في ساحة ” بعل إلعولام”. راقب بعضاً من رعاة الأغنام المتجمِّعين عن سفح الجبل. نظر إليهم باطمئنان، وقد أصابته الدَّهشة من أنّ هؤلاء البسطاء قد كشفوا الزيف الحاصل في ساحات البلاد بطولها وعرضها، وأنّهم ما زالوا يرعون أغنامهم بوداعةٍ وإخلاص وهم يدندنون بعضاً من الأناشيد التي تحمد ربّ السماوات والأرض. ولكن ما لفت نظره أكثر من كلّ شيء هو ولدٌ صغيرٌ لم يبلغ العاشرة من عمره، وقد ترك الرّعاة، وارتقى الجبل قليلاً وغرق في مشاهدة الجموع الحاشدة بصمتٍ وترقُّب.
وفجاةً رأى شخصاً يأتي من ناحية الحشود ويحدِّث الرّعاة وهو يلهث مضطرباً، وفجأةً، ثار الرّعاة وبدؤوا بالصُّراخ والشَّتم والنحيب. لقد وصلت الأخبار من البانثيون، وقد اتّخذ مجمع الأصنام قراراً بقتل بعل وإخراج تمثاله من المجمع المقدَّس.
ترك إيلياهو مكان جلوسه تحت شحرة البلّوط الكبيرة وجرى بسرعةٍ نحو الرّعاة وهو يصرخ “توقّفوا، ليس لكم نفعٌ من بعلٍ هذا، فقبله قتلو حَدَدْ، ومنذ مئتي عام طردوا داجون ومردوخ، والآن يحصل ذات الشيء، احقنوا الدِّماء”. ولكن ما أن وصل إيلياهو إلى المرج الواسع، حتى كان الرّعاة قد ابتعدوا وهم يركبون حميرهم ويسرعون إلى الساحة الكبرى. عاد إيلياهو وهو يجرّ أذيال الخيبة والحزن، فقد كانت كلّ الغوغاء تزعجه وتؤلمه، ولكن ألمه الأكبر كان على هؤلاء الرّعاة. كان مصدوماً من سرعة تبدُّلهم بين الربّ خالق السماوات والأرض وبعل.
وقف إيلياهو بتثاقل تحت شجرة البلّوط الوحيدة في غابة السنديان الموغلة في القِدَم، وتذكّر جدّه إيلياهو الكبير، وصراعاته المستمرّة مع أهالي “إيليبعل”. ها هو مجدَّداً يعيش نفس الاختبار القاسي. كان المنظر أكثر إرعاباً من قبل، فقد بدأ الحشد بتمزيق ثيابهم والشتم في كلّ اتّجاه. بعضهم كانت الدِّماء تغطّي صدره، وبعضهم الآخر كان يشهر سيفه في الأعلى ويصرخ متوعِّداً، وغيرهم كانوا يحرقون ممتلكات بعض الغرباء في أطراف الساحة، أمّا الكهنة والرّعاة فوقفوا إلى جانب بعضهم، لأوّل مرّةٍ منذ قرون! لطالما سمع إيلياهو جدّه يخبره بأنّ رعاة الأغنام لطالما كانوا آخر الحافظين للأناشيد التي ترنِّم للربّ خالق السماوات والأرض. قد ورثوها أباً عن جدّ،، ولا أحد غيرهم يعرفها. إيلياهو تعلّمها من جدّه الذي كان شيخ الرُّعاة.
كان الرّعاة ينطقون أيضاً بالشتائم مثلهم مثل كهنة البعل، لا بل أكثر، وكانوا يصرخون بان الربّ خالق السماوات والأرض أراد لبعل أن يكون إلهاً للأبد على “إيليبعل”، لا بل قاموا أيضاً بتحوير الأناشيد الرعويّة الأصيلة ليغنّوها لبعل. كانت الحشود تصرخ وتغنّي تارةً وتشتم طوراً. كثيرٌ من الناس قُتِلوا دهساً تحت الأقدام، وكثيرون آخرون التهبت جروحهم التي جرحوها لنفسهم فداءً لبعل، أمّا الرّعاة والكهنة فبدؤوا يختلفون في مَن له الأولويّة في حمد بعل وتسبيحه.
ابتسم إيلياهو بحزنٍ فهذا قد حصل ايضاً في أيّام حَدَدْ وداجون ومردوخ. حزن لأنّ التاريخ يعيد ذاته وفي كلّ مرّة يقع الرّعاة ضحايا للدفاع عن أحد أعضاء مجمع الأصنام.ترقرقت الدّموع في عينيه لأنّه لم يبقَ غيره مخلصاً لأناشيد الرّعاة، فالرّعاة ضاعوا في الحشد، وقُتِل بعضهم على أيدي خدّام الكهنة، وهرب من بقي منهم إلى الأدغال. كان مزيجاً من مشاعر الحزن والأسى والغضب، مزيجٌ قاتلٌ من مشاعر سوداء جعلته يقف جامداً في مكانه وهو يراقب فلول الحشود الصارخة، المنهكة، التائهة، المغطّاة بالدِّماء والقروح، والتي ما زال بعض أعضائها يصرخون بكلماتٍ مبعثرة تخلط بين أناشيد الرّعاة وتراتيل القدّاس البعلي.
كانت الشمس قد شارفت على الغروب وإيلياهو ما زال جامداً في مكانه، وقد تشوَّشت أفكاره، حينما أحسّ بيدٍ صغيرةٍ تنحشر في راحة كفّه المرتخي وسمع صوتاً فتيّاً يدندن أناشيد الرّعاة بعنايةٍ وشغف. التفت إيلياهو بدهشةٍ وإذا بالفتى الصغير ينظر إليه بجدّيةٍ وبراءة طفولية، وقال له بشرودٍ “عرفتُ أنّهم كلّهم أشرار، فقد كسروا ألعابي منذ زمنٍ بعيد. مَن يكسر الألعاب شرّيرٌ ويستحقّ الموت. الكبار لا يعرفون هذا!!”
الأجزاء السابقة: