بقلم فادي أبو ديب
“ليتكَ أصغيتَ لوصاياي فكان كنهرٍ سلامُك وبِرُّك كلججٍ البحر”
السيِّد الرب
إنّ إحدى أهمّ صفات الإنسان “المتحضِّر” في عالم اليوم هو انّه بات يعتقد أن خطاياه المقصودة والمستمرّة والممنهجة والمتزايدة سوف تمرّ بدون نتائج أو عقوبات تنزل فيه وبما يملك. وبرأي المنظومة العالمية، الممثَّلة بالدُّوَل المستقلّة وما تشكِّله مع بعضها وفيما بينها من هيئاتٍ وتكتّلات وما يصدر عنها من قوانين وتشريعات، والتي تزعم الاهتمام بكل ما يتعلّق بالإنسان ورفاهيته وسلامه وتقدّمه المزعوم، فإنّ الحديث عن عقوبات إلهية تنزل بالأمم والشعوب التي تستمرّ في ارتكاب المفاسد والموبقات والجرائم مصِرّةً في الوقت عينه على أنها تملك كامل الحقّ، هو ضّربٌ من الجنون والخرافة والسّذاجة الفكرية.
وينطلق هذا الرّفض من عددٍ كبيرٍ جدّاً من الأسباب، يمكن أن نحدِّد بعضاً منها، مثل الإلحاد الذي لا يعتقد أصلاً بوجود إله أو عالم روحي، أو الإيمانيات الربوبية التي تعتقد بوجود خالقٍ، إما غير ذي شخصية، أو ذو شخصيةٍ ولكنه بعيدٌ عن مجريات الحياة البشرية. وهناك أيضاً الاعتقاد السائد في الأوساط الدينية التي تعتقد أن الرب لا يعاقب وأنّه لا يتصرّف إلا بمقتضى سياسة الصبر اللامنتهي. وأيضاً هناك الكبرياء القومي للإنسان في مختلف الأمم، والذي يرفض أن يعترف بأن أمّته على خطأ، أو أنها أوغلت في الفساد إلى حدودٍ لا يمكن العودة منها إلا بمعجزة! وهذا النوع الأخير من الكبرياء الجماعي واللمزوَّد بوسائل وإمكانيات ضخمة لتفعيله وتوجيهه واستخدامه خطيرٌ جداً، لأنّ نتائجه لا يمكن التكهّن بها أو إلى أيّ حد يمكن أن تصل بالواقعين تحت تأثيره.
هناك أيضاً سببٌ آخر لعدم تصديق مسألة الدينونة، ويتمثّل في إشاعةٍ موجودة في الوسطين الديني واللاديني، مفادها أنّ الإنسان في القديم كان ذا وعيٍ محدود للظواهر، وبالتالي فإنه يعزي الكوارث الطبيعية والبشرية إلى أسبابٍ روحية بشكلٍ خاطئ. وفي الواقع فإن هذه الإشاعة هي خرافة ضارّة جداً وتدمّر نظرة الإنسان الحديث للتاريخ والإنسان والروحانيات، ومن يقرأ الكتب القديمة ككتب الأنبياء العبرانيين أو كتاب العهد الجديد أو كتب سقراط وأفلاطون ولاوتسه وتشوانغ تسه وفالنتينوس الإسكندري الغنوصي وغيرهم المئات، يكتشف بأنّ الإنسان القديم ربما كان أوسع أفقاً وأكثر حكمةً وأشدّ إدراكاً وتناغماً مع ما حوله من الظواهر، وقادر على الربط بين الظواهر أكثر بكثير من إنسان اليوم الذي ينحصر معظم إدراكه بما “يعلّمونه” و”يخبرونه” عن طريق وسائل الإعلام والآلات. وإذا أخذنا الأمور بمقاييس الإستنارة والحماقة، فأخشى أن أقول أنّ الإنسان الحديث هو الذي قد يكون الأحمق مقارنةً بالإنسان القديم. وهنا طبعاً نتحدّث عن الإنسان كظاهرة جماعية تتمثّل في الشعوب.
وفي الحقيقة فإن مسألة علاقة العدالة الإلهية بالمحبّة والرّحمة قد تكون شائكة بالنسبة لمعظم الناس، وغالباً ما تنسى الأغلبية بأنّ عدم العقوبة هو في النهاية ليس ضارّاً فقط بمبدأ العدالة، بل يضرّ أيضاً بمبدأ المحبّة. فمن محبّة الآب السماوي للبشر أن يتلقّوا إنذاراً عن نتائج الخطايا التي ترتكبها كل الشعوب والأمم وما قد تسبّبه في المستقبل والأبدية، وخاصّةً أن الإنذارات والتحذيرات جاءت على لسان الأنبياء أولاً، ولدينا في الفصل 28 من كتاب التثنية التوراتي لمحة تمثيلية مسهَبة للبركات واللعنات التي تتبع طريقة سلوك شعب إسرائيل، ولا يوجد مبرِّر لاعتبار أن هذه القائمة خاصّة بهم وحدهم، فالعقوبات التي كانت تنالهم كانت تشابه ما ينال باقي الأمم، وهكذا أيضاً البركات . وهنا أيضاً نتذكّر إنذار يسوع للذين جاؤوا يسألونه عن عن الذين قُتلوا على يد هيرودوس والذين سقط عليهم البرج في سلوام، حيث قال لهم كما هدو مدوَّن في الفصل 13 من إنجيل لوقا:
” أتظنون أنّ هؤلاء الجليليين كانوا خطاةً أكثر من كل الجليليين لأنّهم كابدوا مثل هذ؟ا كلا أقول لكم بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون. أو أولئك الثمانية عشر الذين سقط عليهم البرج في سلوام وقتلهم، أتظنون أنّ هؤلاء كانوا مذنبين أكثر من جميع الناس الساكنين في أورشليم؟ كلّا أقول لكم، بل إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون.”
وموضوع البركات واللعنات لا يختلف عمّا ذكره الرب يسوع عن أن الآب يشرق شمسه ويرسل مطره للأشرار والأبرار، فأنا أرى هذين الموضوعين متكاملين فالآب يعطي الجميع بسخاء وهو يريد أن يتوب الجميع فلا يفرح بهلاك البشر، إلا أنّه سيكون من اللامبالاة وعدم العدالة عدم إنذار شعوب وأممٍ لا تسمع للمكتوب في رسالات الأنبياء الموجودة في الكتاب المقدَّس، ولا تصغي لكلمات الرّجال الحكماء الذين يحاولون إبعادهم عن الشرور. الضَّرّبات القاسية لأمّةٍ ما هي بمثابة صرخة “استيقظوا” لباقي الأمم، ولو أنّ نظرةً بسيطةً للتاريخ تُظهِر لنا بأنّه قلّما اعتبرت أمّةٌ مما يصيب الأمم الأخرى، ولطالما اعتبرت كل أمّةٍ أنها مختلفة وأنّ لها “خصوصيةً” أو “خصوصيّات” لا تُدانى! ولعلّ الثورات والانتفاضات العربية الحديثة وردّات أفعال الأنظمة تجاهها تثبت بأنّ الكبرياء البشري ليس له حدود، فكلّ طرفٍ يعتقد أنه يملك الحقّ المطلق، وخاصّةً الأنظمة التي أوغلت في غيّها وكبريائها، لدرجة أنّ بعضها يعتقد أنه سيهزم الكون كلّه، وأنّ ما من أحدٍ قادر على هزيمتهم حتى الخالق نفسه! ولعلّ عاصمة الآراميين والأمويين، دمشق، هي العاصمة المأهولة الأقدم، ولكنّها الأحدث في ترتيب المدن التي حكمها الكبرياء والمعرَّضة الآن للدينونة. فكلّما زادت غطرسة أمّةٍ وظنّها بامتلاك كامل الحقّ كلّما كان سقوطها مريعاً ودرامياً ومحزناً، ولنا في روما وبابل ونينوى وإسبارطة وغيرها المئات من المدن والأمم عِبرةً لمن يعتبر.
وفي هذا السِّياق يأتي التحذير الواضح على لسان الرّسول بولس في رسالته الرائعة إلى أهل روما، حيث يوجِّه حديثه للإنسان المتكبِّر المغرور بلطف الرب وعطاءاته وبركاته:
“أفتظنّ هذا أيها الانسان الذي تدين الذين يفعلون مثل هذه وأنت تفعلها أنّك تنجو من دينونة الله؟! أم تستهين بغِنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالمٍ أنّ لطف الله إنّما يقتادك إلى التوبة! ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة، الذي سيجازي كل واحد حسب أعماله”
وإن كان الرسول بولس يوجِّه تحذيره هنا للإنسان الفرد عن يوم الدينونة والحساب الإلهي، إلا أن للأمم أيضاً، كتنظيماتٍ ومؤسساتٍ بشريةٍ، يوماً للدينونة والغضب يسبق يوم الدينونة، حيث ستقع الأمم في شرّ أعمالها. وإذ كانت خطايا الأمم ربما تتفاوت في النوع والكثافة، إلا أنها كلّها غارقة في الشرور بشكلٍ أو بآخر. الدينونات على الأمم كما نرى شيئاً منها في القائمة الواردة في الفصل 28 من سفر التثنية السابق الذِّكر أعلاه، ستكون نتيجةً حتميّة للطمع والجشع واستعباد البشر الذي لا ينتهي، لذلك ستكون “هرمجدون” هي آخر معركة أو حربٍ تشمل عدّة معارك ستختم تاريخ الجشع البشري، وهي أيضاً ستكون الحرب التي سيتدخّل فيها يسوع المسيح شخصياً مع قدّيسيه ليزيل الإمبراطورية الاستبدادية العالمية، ويقيم بدلاً منها مملكته العادلة، كما هو واضح من الفصلين 2و7 من نبوءة دانيال. هذه الحرب ستكون الكلمة الفاصلة تجاه كلّ كبرياء الأمم وفسادها الذي يتجلّى في انتهاكها للمقاييس الإلهية واستعبادها للإنسان ومنعه من الحصول على معرفة الإله الحقيقي، هذه المعرفة التي تكفل له السلام والبساطة والمحبّة. في تلك الحرب الأخيرة “[سـ] تنهض وتصعد الأمم إلى وادي يهوشافاط لأني هناك أجلس لأحاكم جميع الأمم من كل ناحية.”
مواضيع مرتبطة:
زكريّا: نبوءة لامنطقية يثبت التاريخ دقّتها