معركة هرمجدّون كضرورةٍ أخلاقية


بقلم فادي أبو ديب

صورة رمزية تمثِّل هرمجدّون

ا من الناحية الأخلاقية، إن صحّ التعبير، فمن الحريّ وضع ملاحظة رئيسية وهي أنّ حدوث كارثةٍ كهرمجدون ليست غريبة عن التاريخ البشري المليء بالمجازر والحروب التي تكلَّلت أخيراً بحربين عالميتين قاتلت بهما ما يُعتبَر أكثر أمم العالم “تحضُّراً” و”رُقيّاً”. ومجدّداً أقول بأنّ عدم حدوث حرب عالمية أخرى هو الذي يجب أن يستدعي استغرابنا، لا بل أنّ عدم الإيمان بقدوم حربٍ عالميةٍ أخرى يحتاج إلى “قوة إيمانٍ” أكثر من الإيمان بقدومها !!

  وبالنظر إلى الدهور السبعة السابقة نرى دائماً أن نهاية الدهر ترتبط بحدثٍ ناتجٍ عن حالة أخلاقية وروحية سيئةٍ جداً. فنهاية عصر البراءة كان نتيجةٍ للعصيان البشري، ونهاية عصر الضمير كان نتيجة للفساد المستشري والارتداد الكامل عن الرب وروادع الضمير البشري، فقد “رأى الربّ أنّ شرّ الإنسان قد كثُر في الأرض، وأنّ كلّ تصوّر أفكار قلبه إنما هو شرّيرٌ كلّ يوم” (تكوين6: 5). أما نهاية عصر الحكومة البشرية في برج بابل فقد كان نتيجة الكبرياء البشري الرّهيب الذي ظنّ أنّه بإمكانه الوصول إلى مرتبة الإله الخالق. العصر الرابع وهو عصر البطاركة تميّز بازدهار العبادات الوثنية التي استشرت فيها عبادات الجنس الجماعي وتقديم القرابين البشرية مثل العبادات التي كان يمارسها الكنعانيون، وهنا يمكننا القول أن أحد أغراض الشريعة الأخلاقية في الناموس الموسوي كان الردّ على العبادات الكريهة.

وبسبب المخالَفة الكلية لهذه الشريعة قبل نهاية العصر الخامس، الذي هو عصر الناموس، عاقب الرب إسرائيل وأرسلهم للسبي عدة مرّات، وبكتابة سفر ملاخي في القرن الخامس قبل الميلاد، توقّف الوحي الإلهي بالطريقة التي نعرفها.

وهكذا أيضاً انتهت فترة استقلال الأمة الإسرائيلية وتوقفت الأصوات النبوية الكبيرة، وحلّت محلّها الكتابات المنحولة والأبوكريفية اللتي نرى فيها بعض اللمسات الإلهية والنبوية الغامضة، ولا أدري هنا إذا كان بالإمكان اعتبار هذه الفترة وحتى يوم الخمسين بمثابة الوقت المستقطع بين العصرين الخامس والسادس! ولكن ما هو واضح أنّ السبي البابلي وسقوط أورشليم عام 587ق.م كان الكارثة التي حلّت بأمّة إسرائيل نتيجة مخالفتهم للناموس الإلهي الذي اعتبرناه بديةً للعصر الخامس، من حيث أنّه نقطة تحوّلٍ جديدة في تاريخهم وفي تاريخ البشرية.

القرون الأربعة التي أعقبت كتابة سفر ملاخي كانت فترة تعاقب احتلالات وحروب على إسرائيل. توقف الوحي وظهور الكتابات العديدة التي كانت تعد بالمسيا المخلِّص بشكلٍ غامض، والحروب والاقتتالات، كلّها ساهمت في زيادة الضياع والتشويش والأسى والشوق في الأمة الإسرائيلية للخلاص ولسماع صوت الرب مجدّداً، فكانت مسيرة الرب يسوع المسيح، المعلِّم الناصري، إنارةً للظلمة الحالكة وإنهاء حالة الضياع الروحي. وهكذا أشرق النور على أرض نفتالي وزبولون وجليل الأمم، ورأى السالكون في الظلمة النور الأعظم كما ينبئ عن ذلك سفر نبوءة إشعياء. وقد كان الفساد الديني حين بداية خدمة الرب يسوع عاماً وحالةً طبيعية في المؤسسة اليهودية وعند الدولة الرومانية وشعبها في إيطاليا واليونان وآسيا الصغرى. وربما كان صلب يسوع المسيح الدليل الأوضح على فساد وتخبّط المؤسسة الدينية وفشل الرومان في تحقيق العدالة. وهنا نتحدث فقط عن المنطقة المحيطة بمنطقة خدمة يسوع المسيح، حيث نسمع أيضاً عن طريق تلميحات الإنجيل وكتابات بعض المؤرِّخين عن الهمجية والشرّ المرعب الذي كانت ترزح تحته شعوب عديدة كالسكّيثيين والكريتيين، ولا تفوتنا أيضاً بربرية قبائل القوط والجرمان والفرنك وغيرهم من الشعوب التي استوطنت أوروبا لاحقاً.  

        ويمكننا الاستنتاج بأنّ مجيء يسوع المسيح كان الحدث الأعظم في تاريخ البشرية والذي يشكّل أيضاً التحوّل ما قبل الأخير في حياة الأمم والشعوب من أجل التوبة عن طرقهم وشرورهم واحتقارهم للتعاليم الإلهية وللإنسان ولصورته المشابهة لخالقه. هذا العصر السادس يقابل رمزياً يوم الخلق السادس. فكما أنه في ذلك اليوم خلق الرب الإله الإنسان على صورته كمثاله، هكذا أيضاً في العصر السادس أعاد الرب للإنسان إمكانية إعادة إشعال نار روح هذه الصورة عن طريق انسكاب الروح القدس الذي أصبح ممكناً بصلب وقيامة يسوع المسيح، وبدء الخدمة الأقوى للروح القدس كما نرى من إنجيل يوحنا وسفر أعمال الرُّسُل.

        ولكن لنفكِّر معاً: فإذا كان الإيغال البشري في الخطيّة والتمرُّد قد استجلب له الغضب الإلهي في العصور السابقة، فما الذي سيجلب عليه العصيان في العصر الحالي؟ ما هي نتيجة رفض يسوع المسيح ورسالته؟ ما هي نتيجة سحق الإنسان للإنسان، واستغلال الإنسان للإنسان بأبشع الطرق وأخبثها؟ ما هي نتيجة جري الإنسان خلف الملذّات والحروب بدون حتّى التوقّف والتفكير فيما يفعل؟ وما الذي سيجلبه هذا التأليه لكل ما هو مادّي حتى لو كان على حساب الإنسان نفسه؟

ما هي نتيجة كلّ هذه التكتّلات السياسية والاقتصادية والعسكرية والدينية  الضخمة التي أصبحت وللمرّة الأولى في التاريخ البشري قادرة على التحكّم بكلّ تفاصيل حياة الإنسان، لا بل وتجبره على معظم ما يفعل، وتتدخّل حتى في معيشته وتربيته وعمله وتفكيره، والقادم يعدنا بالأسوأ والأكثر استبداداً؟

هل ستكون العولمة والصدام الحضاري والحقد والخوف المتزايد بين الشعوب بدون نتيجةٍ كارثيةٍ كبرى؟

إنّ الكراهية المتزايدة والإرهاب المتزايد والاستبداد العالمي الساعي بطريقة محمومة نحو التوحُّد والتمركز قد وصل لنقطةٍ لا عودة منها. علينا أن نقبل أنّ هناك أشياء كثيرة في هذه الدنيا تصل لنقاطٍ لا يمكن العودة منها، فهي كالجسم الذي لديه ثابت مرونة معيَّن يتخرَّب بعدها ولا يمكن له أن يعود إلى شكله الأصلي. التفاؤل المبالَغ فيه ليس أفضل من الاكتئاب الذي يؤدي إلى الانتحار، فكلاهما قاتلٌ في النهاية!

العالم اليوم مستَنزَف بيئياً واقتصادياً ومالياً وطبيعياً. الإنسان اليوم مستَنزَف نفسياً وروحياً وثقافياً بعد أن فقد كل أمل في الوصول إلى الحقيقة، هذا إن ظلّ أصلاً يعتقد بوجودها! الظلم بلغ مبالغ لا يمكن وصفها، وكلّه باسم القانون. والإنسان يُستَعبَد ويُنتَهك ويُسيَّر وتُغتَصَب إرادته باسم التنظيم والضرورة والواجب.

الكراهية بلغت حدّاً لا يُطاق، والأمم كشّرت عن أنيابها لدرجة أنّها مستعدّة لكل الحلول “الشمشونية” في سبيل أملٍ صغير في تحقيق شيءٍ ما يحقِّق لها الأمان. العالم خائفٌ من الإرهاب ومن الأزمات الاقتصادية والبيئية لدرجة أنّه مستعدٌّ أن يرتمي تحت قدمي كلّ من يُظهِر ولو قدرة خادعة على حلّ مشاكله. وهكذا فإنّ المسرح بات يتجهَّز رويداً رويداً لظهور الأثيم، أو ضدّ المسيح، “المقاوِم والمرتفع على كلّ ما يُدعى إلهاً أو معبوداً، حتى إنه يجلس في هيكل الله كإله، مظهراً نفسه أنّه إله.” [*]

العالم اليوم في أتمّ الجاهزية لتصديق كل من يحقِّق له سلاماً خادعاً مزيَّفاً مؤقَّتاً، ومستعدٌّ تمام الاستعداد لأيّ وصفة استبدادٍ دينيّ جَمعي مهما كانت التوليفة القذرة التي ستهيِّئها أديانه، وبحجّة مكافحة التمييز والإرهاب سيخلقون قالباً دينياً، منوَّع العقيدة، معلَّب السلوك والطريقة والتوجُّه والمُبتَغى الذي سيكون خدمة وسلام المنظومة السياسية- الاقتصادية الديكتاتورية العالمية، التي بتنا نرى إرهاصاتها، ولم يعد من داعٍ للتنبّؤ عن مجيئها.

كل هذا الفساد الذي لا يمكن إتقان وصفه سيفضي لا محالة إلى أسوأ كارثةٍ عرفتها البشرية، فالحرب القادمة لن تكون طوفاناً من الماء يرسله الرب الإله، بل ستكون طوفاناً من النار ستفتعله المنظومة الاستبدادية العالمية نفسها، وسيكون العقاب العادل على كبرياء هذه المنظومة وكلّ المنضوين تحتها. هذا الكبرياء الذي ما انفكّ يزداد يوماً بعد يومٍ بطريقةٍ لا تُصدَّق.

هرمجدون، ستكون الفيصل والإثبات النهائي على الكبرياء السياسي- الديني، والذي لربما سيكون دافعها الرئيس ربما تمرٌّدٌ واسعٌ جديد لمؤمنين بالمسيح في أورشليم وما حولها، رفضوا هذه المنظومة وقرّروا عدم الانصياع لمن سينصّب نفسه إلهاً في الهيكل الأورشليمي القادم،، في منطقةٍ جيوسياسية لا يمكن أبداً التسامح فيها مع أيّ تمرّدٍ فيها.

هرمجدون ستكون النتيجة الطبيعية لعالمٍ لم يفكّر مرّةً في كبح جماح ذاته ولمنظومةٍ لم تتوقّف عن الجموح وممارسة الاستبداد والاضطهاد والنهب والتوسّع.

هرمجدون هي ظلامٌ ودمار لمن ليس له  رجاء، ولكنها ليست سوى مفرقعة نارية بالنسبة لمن ينتظر مجداً افضل وسلاماً أعمّ في عصر الملكوت، العصر السابع، الذي سيكون “يوم الراحة السابع” بالنسبة لهذه الأرض الجميلة.

وأكرّر قولي بأنّ عدم اعتبار وجود معركةٍ أخيرة لهزيمة الشر هو الشيء الغريب والذي يحتاج لتفسير وليس العكس، لأنه ببساطةٍ يترك الجريمة في بدون عقاب، فهذه الأرض لا يجب أن تدمَّر كما هو رائج في بعض اللاهوت المسيحي الشائع، بل تحتاج أن يُستَأصل الشرّ منها كما نقرأ في مثل الزؤان والقمح على لسان يسوع المسيح، فالزؤان سيُجمَع ويُحرَق وأما الحنطة فستُخَزَّن في “أهراء” العصر القادم [**]، وحينها سيرث الودعاء الأرض للأبد.

الهوامش:

[*] الفصل الثاني من رسالة تسالونيكي الثانية. ومن اجل فهمٍ أفضل أنصح بقراءة كامل الفصول الثلاثة لهذه الرسالة.

[**] أهراء: مخازن


موضوع مرتبط:

معركة هرمجدّون كضرورةٍ تاريخية

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.