بقلم فادي أبو ديب
قد يتفاجأ البعض بموقفي القديم- الجديد، والمتمثِّل برفضي الاعتراف بأيّ خصوصية أو بركة لما يُسمّى بعيد الميلاد الذي تحتفل به معظم الطوائف المسيحية في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول/ديسمبر من كل عام. البعض قد يرى هذا تجديفاً، والبعض الآخر يراه تطرُّفاً، ولا أعتقد أنّه يوجد من سيتفهّم هذا الموقف إلا حفنة قليلة جداً من المسيحيين.
رفضي هذا لا يتعلّق بالمقام الأوّل بكون هذا العيد اختراعاً كنسياً محضاً من إبداعات القرن الرابع الميلادي (وتحديداً العام 354م). وعندما نتحدّث عن هذه الفترة من التاريخ فنحن نتحدّث إذاً عن فترة الديانة المسيحية التي شكّلت الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية. كما أنّ هذا الرّفض ليس أيضاً بسبب جهلنا للتاريخ الحقيقي لميلاد يسوع الناصري.
إنّ رفضي لاعتبار أيّة خصوصية أو بركة خاصّة لهذا اليوم يتعلّق بمفهومي ليسوع المسيح ورسالته. فمعلِّم الجليل العظيم لم يركِّز أبداً على رغبة الآخرين في الاحتفاء به. يسوع رفض كلّ من أراد اتّباعه لمجرّد الفضول أو الرّغبة في الاستماع لبعض “الأحاديث الجيدة”. كان كلّ تركيزه وشوقه وألمه هو أن يصنع تلاميذاً، وأن يغيِّر الإنسان، لذلك نراه يقف أمام كل شخصٍ من تلاميذه، قريباً منه، بحيث نستطيع أن نتخيّله ينظر في عيني كلّ منهم مليّاً قبل أن ينطق بالكلمة التي غيّرت حياة كلّ من استجاب لها: “اتبعني!”.
يسوع هو الفرح والألم اليوميّان لتلاميذه ومحبّيه. يسوع هو شاغل البال ومثير آلاف التساؤلات مع صبيحة كلّ يومٍ جديد، وأمام كل موقفٍ صعب، وتحت ضغط كل الأسئلة الوجودية وساعات اليأس والحيرة والرّغبة في التحرُّر من أثقال هذا العالم.
ما الذي سيعنيه يوم الخامس والعشرين من الشهر الأخير من السنة وأنا أصارع مع يسوع منذ أوّل كل عام، في كلّ ساعةٍ منه، حتى ليلة العيد؟ كيف سأستمتع بالسَّهَر أو بإطلاق المفرقعات، وأسئلتي الكبرى ما زالت بدون إجابة مريحة، وصوري المشتهاة لم تُرى بعد، وما زالت الأعوام تضيف ثقلاُ فوق ثِقل في صراعي الأكبر لأكون تلميذاً؟
لماذا أرفض العيد؟
لأنّ يسوع إما أن يكون عيداً فِعلياً حقيقياً كل يوم، أو لا يكون! لأنّ طفل المذود ما زال يحيّرني ويؤلمني ويحرقني بنار غموضه الذي لم أفكّ سرّ قوّته بعد ولم أستطع أن اكون مثله.
أرفض أن أقول أن ميلاد يسوع هو في هذا اليوم أو ذاك، ليس لأنّه يومٌ مزيّف ووثنيّ يقف شاهداً على رغبة المؤسسة الدينية التي لا تنضب في احتلال مكانٍ بارزٍ ومرموق دنيوياً فحسب، بل لأنّ يسوع يولد فِعلاً وحقاً، بدون كلامٍ شاعريّ، مع كلّ يومٍ أستيقظ به، وأنا ما أزال جامداً لا أفعل ما يجب أن أفعله لكي أكون تلميذاً في عالمٍ أصبح يطردني في كلّ مكانٍ أذهب إليه.
يسوع لم يردنا أن نحتفل بعيد ميلاده، بل أرادنا أن نحتفل بأننا تلاميذ له، وأننا سنشرب معه من نتاج الكرمة في ملكوته يوماً ما. يسوع أرادنا أن نعيد يدنا لتمسك بيد الآب، وليس أن تضيف إلى الروزنامة عيداً آخر. يسوع وُلد في يومٍ واحدٍ، و صنع من نفسه فصحاً في يومٍ واحدٍ، لكي نحيا نحن كل يوم بمعرفته والشوق لفكّ أسراره والشرب من نبع المعرفة الذي يعطيه من دون انتهاء.
يسوع حبّنا الذي لا ينتهي، وألمنا الذي سينتهي يوماً بمعرفته الكاملة(؟) في غير هذا العالم. يسوع معلِّمنا الذي يفاجئنا كل يومٍ بما نكتشفه عن ماهية الحريّة والحبّ والجمال. يسوع يولد في كلّ لحظة، ويرينا في كلّ حين مدى بشاعة هذا العالم وافتراق بديهياته عن بديهيات صورة الآب في الإنسان.
أرفض عيد الميلاد وأُمعِن في رفضه، لأني أرفض أن أحتفل في غير ميعاد الاحتفال. أرفض أن أمثِّل أنني عرفت وأنا لم أكتمل معرفةً حتى الآن. أرفض أن أكون تكون هويّتي في عيد واحتفال ومناسبة اخترعها التنظيم الديني ليثبت نفسه، وكأنّ الانتصار على الوثنية يكون بسرقة أعيادها، أي بطريقةٍ تذكِّر بالأسلوب الروماني الوثني في محو أسماء الشعوب المغلوبة!
أرفض عيد الميلاد لأنه أسلوبٌ آخر من أساليب العالم الذي اتّبعه التنظيم الديني في إدخال نفسه في معركة الأسماء والأضواء والألوان الباهرة لكي يقول “أنا هنا”، بدل أن يبهر العالم ببساطته وحرّيته ومحبّته.
نعم، أرفض عيد الميلاد، فيسوع وُلِد ومات وقام. وأنا أنتظره ليأتي ملكاً. أنتظره وأنا ضعيفٌ ومتألِّم إلى حدّ الثمالة. احتفالي الوحيد سيكون هناك في الملكوت في يومٍ ما. يسوع لم يقل “تذكّروا مولدي”، بل “تذكّروا ما فعلت وانتظروني”!