بقلم فادي أبو ديب
لم يأتِ لنفتح قاعات نسمّيها “كنائس” ونجلس فيها ونناقش ماورائيات معظمها لا يفيد، أو لنختبر جمال ترانيمنا وتراتيلنا وننافس بها موسيقيي العالم، بل جاء ليعلّمنا معنى بناء مجتمعٍ حقيقي من التلاميذ عارفي الرب. مجتمع تسوده المحبّة ويكلّله التفاني المضحّي.
أتى لنعرف الحرية ومعنى الحبّ ومعنى التمرّد على عبودية نُظُم وبديهيات العالم. جاء ليعلّمنا معنى سرّ فرح البساطة وماهية الأولويات.
مات لكي يجعلنا “نعرف” أنّ حرية الحب ليس لها حدود، وأنّ حرية التمرّد قد لا يكون لها حدود.
جاء ليعلّمنا أن الناموس ليس مستحيلاً أن يُعاش، ولكنه يُعاش من أجل الإنسان وليس خوفاً من العقوبة أو وثناً جامداً ينبغي إرضاؤه. مات ليعلّمنا ألا نخاف أن نعيش الحقيقة حتى لو دفعنا حياتنا ثمناً.
عاش بيننا لكي يثير فينا فضول التساؤل وليس لكي يريحنا بحجّة النعمة. فلم يكن يوفِّر فرصةً ليستفزّ عقول سامعيه للتفكير في وجودهم وحالهم ومصيرهم وحقيقة قلوبهم.
جاء ليعلّمنا كيف يمكن لشخص أن يعيش الناموس ويحترمه ويطيعه، وفي ذات الوقت يعشق الآب والإنسان معاً، بدون أن يساوم على العبادة الحقيقية وأيضاً بدون أن يؤلِّه الإنسان أو يقلِّل من قيمته، كما يخطئ معظمنا في اعتناق أحد التطرُّفين. ثم بعد هذا يموت مرتاح الضمير من جهة الآب والإنسان وهو واثق أنه منتصر لا محالة.
عاش كإسرائيليٍّ حقيقيّ من سِبط يهوذا؛ من نسل الملك العظيم داود؛ أحبّ أورشليم ونظر إلى ذلك اليوم الذي سيعود فيه إليها ليشرب من نتاج الكرمة مع مختاريه، لا بل أنه منع القسم باسمها لأنها “مدينة الملك العظيم”؛ تاق إلى خلاص أمّته فحاول حتى الموت “جمع فِراخها” ؛ بكى عليها بكاءً حقيقياً؛ بكاء من يحبّ حقاً، ولربما تذكّر المزمور القائل “إن نسيتكِ يا أورشليم، تنسى يميني! ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكركِ، إن لم أفضِّل أورشليم على أعظم فرحي!”، ولكنه في ذات الوقت لم يتغاضى عن خطاياها وأعلنها بصوتٍ عال، وليس كما يفعل بعض من يعتنق مذهب الوطنية اليوم فيكذب ويتغاضى عن الإنذار بالدينونة بحجّة أنه راقي ومن “أتباع العهد الجديد”!
عاش كإسرائيليٍّ “لا غشّ فيه” فجاء إلى خاصّته، ولكنه في ذات الوقت أحبّ العالم وتاق إلى خلاص كلّ فرد وتحريره بتعريفه بالحقّ.
لم يعلّم فحسب، بل أرانا بأمّ أعيننا وأسمعنا بآذاننا كيف تكون الحريّة من عبودية السلوك الشرعيّ الجاف المنطلق من الخوف والواجب، وكيف تكون الحرية الحقيقية من نواميس السلاطين، ولكنه في نفس الوقت لم ينقض الناموس، وهو عالمٌ بانّه لو خالفه كل العالم فإنّ نقطةً واحدة منه لن تزول حتى يكون الكلّ، وليس كما فعل معظم مسيحيي اليوم بأن قلّلوا من قيمة الناموس الذي ينظِّم حياة الفرد والجماعة، واعتبروا بأن مسيحية اليوم أرقى من أن تتبع وصايا في البيت والمجتمع!
لم يثُر سياسياً على هيرودس أو بيلاطس ولكنه واجههما بكلّ شجاعة وأسمع كلّ منهما ما يجب أن يُسمِعه إيّاه، فكان متحرِّراً من سلطانهما على روحه وقلبه وسلوكه، فأرانا بحقّ ما معنى عدم الخوف من الذين يقتلون الجسد ولكنهم لا يستطيعون أبداً قتل النَّفس.
عمل كلّ شيءٍ ليخلّص الناس، بمحبّة فائقة، إلا أنه في ذات الوقت لم يركع ولو مرّةً ليطلب من أحدٍ الإيمان به، ولم يتهاون مرّةً في التنبير على مهالك الخطيّة، وكان واضحاً جداً عندما كان يقول كلمته التي تحفر قلب كلّ توّاقٍ حقيقي للخلاص من رُبُط العالم: “اتبعني”.
تجرّأ على هدم “القدوات الصالحة” في نظر الإنسان العادي، ولم يخف أن يتركه في فراغ “مرجعيّ” لأنه “عرف” وآمن أنّ للجميع سيدّاً ومعلّماً واحداً هو السيِّد الرب.
عرف أن له سلطان في السماوات والأرض، ولكنه علم بأنّ هذا السلطان لم يكن لإبراز النفوذ والسيطرة بل لشفاء الناس وإعطاء املٍ واقعيّ للمتألّمين بتعليم الناس المحبّة الحقّة، فكان سلطانه سلطان مَن له معرفة الحرّية والحب، ولم يكن كمؤسسات الدين في الأمس واليوم التي استعملت سلطانها لتغيير الناموس الإلهي، ولتبيّن جبروتها وسطوتها على الجموع.
هذا هو المعلِّم يهوشوع الجليلي !