لم يتشوّه معنى المقاومة في العالم كما تشوّه في هذه البقعة من العالم، الممتدّة من بحر الظُّلُمات حتى خليج العرب والعَجَم. ولم يكن هذا هو المفهوم الوحيد الذي تعاونت عليه السَّفالة والسّطحية والكراهية لمسخه، وبالطبع لن يكون الأخير في حال قرّرنا أنه ما زال هناك مفاهيم لم تُشَوَّه بعد.
ولكي لا يتّهمني أحدٌ بالتحامل على هذه المنطقة الموبوءة- والتي شرّفني الربّ بامتحاني بالعيش فيها- سأوضِّح (كما يفعل المتملِّقون) بأنّ كلّ المفاهيم قد تشوّهت في كلّ أنحاء العالم، إذا تماشينا مع النظرية الأفلاطونية بأنّ هناك وضعاً مثالياً للقيم (الخير، الحب، الجمال…) وأنّ ما نعيشه ونمارسه هو ظلال لهذه القيم، إن صحّت تسميتها.
ورغم اعترافي هذا، فإنّي لن اوفّر جهداً لأبيّن بأنّ طريقة المسخ التي تمارسها شعوب هذه المنطقة، القاتلة والمقتولة، السّادية والمازوشية، هي الأشدّ فتكاً والأكثر تدميراً.
كلّ مفاهيم الإنسانية والخير والجمال والحبّ في هذه الرقعة الممتدة بين بحر الظلمات وخليج الظلام الأبدي وجدت نهايتها في التركيبة الأيديولوجية- الدينية المعقَّدة الوصف والصعبة التحليل. فالإنسانية غدت خدمةً للدين، والخير هو التطبيق الجامد لشرائع الدين، أما الجمال فلا ضرورة له، والحبّ هو حبّ الأرض والتراب والحدود والبحار والأنهار وكل شيء ما عدا هذا الإنسان البائس.
أما آخر تقليعات هذه الأمّة الأَمَة فهي موضة “المقاومة”، فكل مجموعةٍ دينيةٍ او حزبية أو سياسية أو عِرقية تجد شيئاً ما “لتقاوم” من أجله، وبسببه تسفك الدماء وتهتك الأعراض وتنشر الويلات. لا أدري من علّم هؤلاء أنّ “المقاومة” هي مفهوم سامٍ وأنّ الجهاد في سبيل إلهٍ ما أو قطعة أرض ما هو مبدأ يستحقّ التقدير!!
لم تُمدَح “المقاومات” في مكانٍ في العالم كما مُدِحت هنا، ولم يُقرَض الشِّعر لتسبيح “المقاوم” وسيفه وبندقيته ونعل حذائه وقطعة جواربه وعرقه ودمه كما قُرِض الشِّعر في بلاد العرب من بحر الظُّلُمات إلى خليج الظلام؛ فأصبح كل من يريد أن يتمرّد ويشذّ، أو يستجلب عطفاً أو مدحاً أو مالاً أو كوبونات نفطٍ، يخترع قضيّةً “ليقاوم” من أجلها، وإذا ما خسرت القضيّة استمرت “المقاومة”، وإذا ربحت استمرّت أيضاً المقاومة بعد اختراع فروعٍ لها “كانت منسيّة” لوقت الحاجة.
المقاومة بحسب المفهوم القتالي الجمعي أسهل المقاومات لأنّها تنطلق من العصبية الغرائزية، فإذا أردتَ أن تحشد وراءك جمعاً للقتال، ما عليكَ إلا أن تثير العصبيّة وتوقظ الأحقاد وتحرِّض العواطف وتشيطن الخصوم، وستحصد أسرع النتائج!
انظروا مثلاً إلى مقاتلي حماس والجهاد وألوية صلاح الدين والجيش الإسلامي وغيرها، والذين في معظمهم من الشبّان الصّغار الذين يجذبهم أن يقتلوا “اليهود” “القردة والخنازير” أكثر من تفكيرهم بكرامة الإنسان الفلسطيني، والذين يرتبطون بالمقدسي والألباني والزرقاوي وعزّام وبن لادن أكثر من تفكيرهم باللدّ وصفد وحيفا وبيّارات الليمون في عكّا.
هؤلاءأثبتوا هم وغيرهم أنهم أوّل من يغتصب كرامة أخوتهم، وبسببهم هم وغيرهم خسر الإنسان الفلسطيني المعذَّب أكثر مما خسر من جرّاء أعمال القمع والقتل الإسرائيلية.
أما العراقيون فما انفكّوا يقتلون ويذبحون بعضهم بعضاً منذ 9 سنوات بحجج شتّى، وكلّ طرفٍ من عشرات الأطراف المتصارعة يظنّ أنه المقاوم الأعظم في تاريخ بلاد العرب والمسلمين. مقاتلو ليبيا وسوريا يتصرّفون وكأنّهم يقاتلون عدوّاً خارجياً، ويذبحون جيرانهم وأخوتهم وهم يردّدون نفس الأناشيد والتعابير الحماسية التي اختُرِعت أيّام الكفاح المسلَّح الفلسطيني. كل أعمال القتل والترويع هي بحجة المقاومة والهدف الأسمى، الذي هو بالنسبة لهم الحصول أخيراً على الأرض والمال والكراسي، بالإضافة لخدمة دينهم بحسب ما يرون، دون ان يفكّروا ما هو الهدف النهائي لـ”خدمة الدين”.
وفي حين يتوقّع المرء بانّ هؤلاء المقاومين فرحون بمقاومتهم، نجدهم في ذات الوقت يبكون قتلاهم ويلومون العالم كلّه على الدماء التي اختاروا هم ان يقدّموها (كما يقولون)! هي إذاً ظاهرة سايكولوجية غريبة يبدو أنّ الواقع تحت تأثيرها يمارس نوعاً من أنواع انفصام الشخصية Personality split، فيمارس دورين ويعيش شخصيّتي البطل المغوار والخروف المذبوح في ذات الوقت!
وفي حين يجب أن تكون “المقاومة” عمليّة فيها أعلى معايير التحكّم بالذات والتوحّد مع القضية، نجد أنها تتحوّل لكارثةٍ نفسية- فردية وجماعية- سوسيولوجية، لدرجة انّ معتنقها لا يمكن أن يتنازل عنها إلا بالحصول على مقابل، وبالمختصر تصبح المقاومة مهنة تحتاج إلى اعترافٍ وقبول من العالم (مع انها تدعي عدم حاجتها لهذا الاعتراف بحكم أنها شعبية!!)، وربّما إلى نقابة!
هذا بالإضافة إلى أنّها سرعان ما تصبح مزيلةً للضمير لدرجة أنّ معتنقها قد يرتكب أيّ شيء بحجة “خدمة القضية”، وهذا ما يفسّر لنا تورّط كلّ حركات المقاومة العالمية في المجازر المروّعة.
المقاومة التي هي في الأصل اندفاعٌ شعبيّ عفويّ للدفاع عن النفس، بات اليوم جيوشاً جرّارة وتحالفات عالمية وأموال نفط ومخدِّرات ودعارة وأثمان مواقف.
كلّ ما سبق ليست مقاومات بل هي عبارة عن جيوش يقودها الثأر والحقد والانتقام والانفلات الغرائزي الذي لا يضبطه ضابط ولا يوقفه شيء. هي في الحقيقة مقاومة سهلة جدّاً لأنّها “لا تقاوم” الذات، بل تعطيها اوسع مجال لتطوير أحقادها وسوادها وظلامها الحالك.
المقاومة الحقيقية والأشدّ ضراوةً وعنفاً هي مقاومة الأفراد المستنيرين وليست مقاومة القتلة والسياسيين المدجّجين بالأسلحة والتحالفات. المقاومة الحرفية الحقيقية هي مقاومتنا لنبقى أحياء من الداخل رغم كل ما يحصل حولنا من قتل ودمار.
أن نقاوم هو أن نحافظ على قدرتنا على الحبّ في الوقت الذي يكافح الجميع لمجرّد الحياة، وأن نكافح من أجل ان يكون لدينا مفهومٌ للعطاء، المادي والمعنوي والروحي والعاطفي، في الوقت الذي يجب أن نفكّر فيه بالأخذ والحصول والهروب.
المقاومة الأعنف، والتي يستحقّ من يموت دون الوصول إلى هدفها أن يُسمّى شهيداً، هي مقاومة الإصرار على أن نحبّ ونعطي لأنفسنا ولمن هم حولنا. هذه العملية التي يسمّيها الفيلسوف الوجودي بول تيليش بـ”التلف المقدَّس” هي أن نأخذ فرصتنا في أن نتلف أنفسنا من أجل قضيّة سامية، هي قضيّة أن نعطي أملاً لمن حولنا، ان نجعل من حياتهم معانٍ وألوان كثيرة.
المقاوم في هذه الأيام هو من يصرّ بعناد على أن يجد وقتاً للضحك والأمل والتعرّف على الجماليات والثقافات، وأن يطوِّر نفسه في كلّ معرفةٍ وفكرٍ وفنّ جميل، رغم التفاهة التي قد يراها في سلوكه بعض من هم حوله. المقاوم أيضاً هو من يجعل الىخرين يرون ما لا يستطيعون رؤيته بفعل الدّخان والدّمار والضجيج والدّماء.
هذه المقاومة ليست سهلة، بل إنها بالغة الصعوبة، وقد لا يكون النجاح حليفها، ولكنها تستحقّ، لأنّها مقاومة لا تهدف لانتزاع أرض قد نعود لخسارتها، بل تهدف إلى بناء نفوسٍ يخفق فيها الجمال وتتوق للحبّ في كلّ حين، لهذا فما تبنيه هذه “الحركة المقاومة” لا يمكن هدمه حتى لو فني الجسد. هذه المقاومة لا تتقوّى بكثرة عدد المنتسبين إلى صفوفها، بل مصدر قوّتها يكمن في أنّها نتاج أفراد مستنيرين قادرين، وقودهم هو الشَّغَف، وهو السلاح الأقوى لأنّ مصدره ليس من هذا العالم، بل من أعماق الرّوح البشرية- الإلهية.
هذه المقاومة هي مقاومة اللانتماء لأيّ طرف، وفي ذات الوقت الانتماء للمحبّة الجامعة. يا لصعوبتها!! هي مقاومة المعلِّم يسوع الناصري الذي لم ينتمَ لأيّ طرفٍ من أطراف النزاع الكثيرة ولكنّه انتمى لكلّ إنسان. نعم، هي المقاومة التي قد تصل بصاحبها حتى الموت من اجل إعطاء الآخرين المثال والقدوة والمعرفة والطريق.
هذا ليس شعراً، بل حقيقة، فالشعوب التي انتصرت هي التي كان لديها أفرادٌ يعشقون الجمال والفِكر والمُثُل.
لقد عكفتُ منذ فترة على التعلّم الذاتي والجاد لبعض اللغات والثقافات الغريبة، وقد يجد البعض من أصدقائي في هذا تَرَفاً لا مبرِّر له في هذا الوقت الحرج الذي يجب أن اهتمّ فيه بقضايا أكثر أساسيةً على المستوى الشخصي والمجتمعي، ولكني أصرّ أنني أقاوم لكي لا استسلم لطريقة تشكيل الحياة التي يحاول كل شيءٍ من حولي إجباري عليه. قد أخسر الكثير، ولكني سأربح شيئاً لا يُقَدّر بثمن. سأربح الإيمان الذي فقده الكثيرون بأنّ الإنسان قادرٌ على الحبّ وعلى عيش الشَّغَف والفرح به حتى لو في غرفة صغيرة باردة، لا بل أنّه قادرٌ على النموّ والتحوّل إلى ما لم يخطر يوماً له إلا في أحلامه، والأروع من هذا كلّه هو الإيمان الثمين النادر بهذه الأعجوبة الغامضة القديمة قدم الإنسان- الجديدة طالما أنه موجود، الأعجوبة التي تقول بالتمازج بين الروح الإلهية وصورتها الإنسانية بطريقةٍ لا تُدرَك إلا بالقلب. هذا التمازج الذي يصنع من كلّ ضعيفٍ فارساً من الفرسان الذين لطالما اعتمدت عليهم الإنسانية في فتح آفاقٍ جديدةٍ لها