بقلم فادي أبو ديب
“هذه هي حال الفكر البعيد عن العمق الرّوحي:تقديس الأرض والثقافة والتاريخ، وثورة على كلّ من يعترف بمعاصي الأمّة. ارحمنا يا رب فنحن خطاةٌ حقّاً بكل ما فينا!”
عندما يحاول أحدنا التفكُّر بعقليّة روحية في أسباب ما يحدث في البلاد العربية ومنها سوريا، ويحاول قدر استطاعته أن يشير إلى الخطأ والصواب، فهذا لا يعني أنّه ذو أعصابٍ باردة وأنّ الناس لا يهمّونه. فالاهتمام بحياة الناس لا يجب أن يعني في أيّ حالٍ من الأحوال عدم الإشارة إلى الخطأ أو السّكوت عنه، أو، في الحالة الأسوأ، تحويله إلى صواب. والربّ يحذِّر قالبي المفاهيم والشرائع بفم إشعياء النبيّ فيتوعَّد بالويلات “للقائلين للشرّ خيراً وللخير شرّاً، الجاعلين الظلام نوراً والنور ظلاماً، الجاعلين المُرّ حلواً والحلو مُرّاً.” (أشعياء5: 20)
وعلى هذا، فعلى من يريد الوصول إلى الحقيقة أو شيءٍ منها، أن يحاول قدر المستطاع رؤية الأمور كما هي وتسمية الأمور بمسمَّياتها مهما بلغ الأمر من الصعوبة والتعقيد، فرؤية بصيصٍ من النور أفضل من البقاء في الظُّلمة الحالكة.
لماذا دمشق؟ وعندما نقول “دمشق” لا نعني دائماً بالضرورة تلك البقعة المحدودة من الأرض الواقعة في جنوب سوريا والمحدَّدة بمساحة معيَّنة، بل قد نعني بسؤالنا هذا كامل البقعة الجغرافية التي تتثَّر وتخضع وتسير بحسب الفِكر والرّوح الذي تتمركز إنتاجيّته ونظريّاته وتوجُّهاته في دمشق، سواء كان هذا الفِكر دينيّاً أم اجتماعياً أم إنسانياً أم سياسياً أم قوميّاً أو ما شابه، وسواء كان هذا الفِكر ناتجاً عن أنظمة سياسية حاكمة أم معتقدات شعبيةٍ راسخة. فنقرأ مثلاً أن الربّ عندما يعطي نبوءةً بالدينونة على دمشق في الفصل 49 من إرميا فإنه يعتبر تأثيرها سيصل إلى حماة وأرفاد (عدد 23 و24) على اعتبار انهما ضمن البلاد ذات العنوان الكبير “دمشق” (أو سوريا)، وسنأتي قريباً على الحديث عن هذا النص وعلاقته المرتبطة بأواخر الأيّام، أي زمننا الحاضر وما يليه، أكثر مما يرتبط بالسياق التاريخي في زمن إرميا. كما نقرأ في دينونة دمشق التاريخية في سفر عاموس النبي أنّ الدينونة أيضاً تنال من آون (بعلبك) التي كانت تحت تأثير مملكة دمشق.
يستغرب البعض ما يحصل اليوم، أما البعض الآخر فغير مستغربين طالما أنهم يعتقدون بأنّهم يعرفون كلّ شيءٍ عن سبب ما يحدث، وهذا “البعض” الثاني ينقسم بشكلٍ رئيسي إلى قسمين: قسمٌ واثقٌ من المؤامرة الكونية على دمشق، وقسمٌ آخر واثقٌ من ملائكية “الثورة” و”شيطانية” النظام، وهؤلاء يعتقدون بأنّ هذه الثورة التي هي التي ستؤدّي إلى “حرّيّة” السوريين بطريقةٍ تغلب عليها التصاوير الورديّة الحالمة التي لا تمتً لا للواقع ولا للتاريخ ولا حتى للأيديولوجية التي ينطلقون منها بأدنى صلة.
وفي كلّ الأحوال فإنّ هذا الفريق وذاك بالإضافة للفريق الذي ذكرناه أولاً وهو فريق المتفاجئين بما يحصل لدمشق “الثقافة والفن والتاريخ والعراقة” يخطئون جميعاً في توجيه أنظارهم إلى الاتجاه الصحيح. وبدلاً من كيل كلّ طرفٍ الشتائم للطرف الآخر، وبدلاً من استغراب البعض لكل سيرورة الأحداث الجارية، يتوجّب توجيه السؤال الأنسب والأنفع وهو” لماذا يحدث هذا؟”.
والغريب أنّ قلّةً سألت هذا السؤال بجدّية الرّاغب بمعرفة الجواب. هذه القلّة هي حفنة صغيرة من شعبٍ يعتزّ بتديّنه ومظاهره الدينية وإرثه الروحي الموغل في القدم، ويفتخر على كل أمم الأرض بأنّ أرضه مهد الأديان والرّسالات والحضارات.
وفي الحقيقة فإنّ هذا الافتخار والاعتزاز هو أحد الأسباب التي أدّت إلى ما يحصل اليوم.
فدمشق العصور الحديثة جمعت عناصر عديدة إذا ما اجتمعت في أيّ أمّةٍ دمّرتها ودفعتها لمعاناة ويلات الانحطاط والخراب عاجلاً أم آجلاً.
الكبرياء الديني بكل أنواعه عاملٌ واضحٌ بشدّة في دمشق. فالمؤسسة الدينية المسيحية لا تنفكّ تذكّر العالم بأنّها مهد المسيحية، وبأن كلمة “مسيحيون” أٌطلِقت أوّلاً في مدينة أنطاكية السورية، وأنّ دمشق هي مُنطَلَق بولس الرّسول إلى العالم، وسواء كانت الادّعاءات السابقة صحيحةً أم لا، فإنّ المؤسسة الدينية المسيحية (وهي تتألّف من طوائف عديدة لا شأن لي بذكرها أو التركيز على إحداها دون الأخرى) تعاني موتاً روحياً يثير الذهول، سواء على المستوى الأخلاقي أم التعليميّ أم الروحي، وهي تقريباً عديمة التأثير الروحي. وهي إن كانت تفتخر بأنها قامت على أكتاف بولس وحنانيا وغيرهما فهي لا تشبههما لا من قريب ولا من بعيد من حيث إتيانها بالنهضة الروحية والأخلاقية والشفائية للأرواح قبل الأجساد. هذه المؤسسة جعلت من نفسها أداةً للسّلطات الحاكمة منذ زمنٍ بعيد وحتى الآن، وهي تضطهد بشراسة كنيسة يسوع المسيح التي تتألّف أيضاً من أفراد ينتمون لتيارات ونُظُم فكريّة متنوّعة لن أدخل بتفاصيلها. المؤسسة هذه أصبحت في كثيرٍ من الأحيان وبالاً على الكنيسة بدلاً من أن تكون بركةً حاملةً لها وراعيةً لنشاطها. فهذه المؤسسة لا يهمّها سوى الحفاظ على ممتلكاتها وصورتها اللامعة أمام هذه الجهة أو تلك، وقد أثبتت الأحداث الأخيرة أنّ هذه المؤسسة والجهاز الديني القائم عليها فَقَد الحساسية الرّوحية بشكلٍ كامل (باستثناء أفراد قلائل جداً)، وأنّها في النهاية ليست سوى مؤسسة اجتماعية ذات صوتٍ عالٍ موجودٍ لخدمة أهداف روح ضدّ المسيح الموجود في هذا العالم، وهي كما يبدو مستعدّة للتحالف مع الشيطان إن استلزم بقاؤها هذا الأمر. ورغم كل ركودها الروحي الذي لا نجد له مثيلاً حتى في بلاد عربية أخرى كلبنان والأردن ومصر والسودان والجزائر، فبعض رجالاتها لا يخجلون من الاستمرار في الافتخار بأصالة “المسيحية السورية” وأفضيلتها على مسيحيات الغرب والشرق. وبدلاً من أن يظنّوا بأنّ ما يدعو للفخر هو أنّ التلاميذ دُعوا مسيحيين في أنطاكية أوّلاً، كان من الأجدر أن يبحثوا إن بقي تلاميذ في دمشق أخيراً!
أما المؤسسة الدينية الإسلامية فيستطيع الأخوة المسلمون الحديث عنها أفضل منّي طبعاً، ولكنها أيضاً تعاني من الكبرياء الشديد، فهي تعتبر نفسها وكأنّها الوصيّة على بلاد الشام المباركة التي تغطّيها أجنحة الملائكة، لا بل هناك شائعة لا أعرف مدى انتشارها يقتنع معتنقوها بأنّ هذه البلاد هي الأفضل تديّناً واخلاقاً في كل أنحاء العالم، بما فيها العالم الإسلامي نفسه! وقد انقسمت هذه المؤسسة الدينية إلى قسمين: قسمٌ يمجّد الحكّام ويتقاعس عن التوبيخ والإرشاد والدعوة للتوبة (علناً على الأقل)، وقسمٌ يسبّ الحكّام وينشر الكراهية والبغضاء والحقد الديني والمذهبي، وبين هؤلاء وأولئك ربما بقيت بقيّة باقية غير مسموعة الصوت.
هذا الكبرياء الديني الشديد هو قبل كلّ شيءٍ انتهاك لأهمّ المبادئ الإلهية وهي “التواضع”، وعندما ينتفي التواضع ينتفي الخشوع، وعندما ينتفي الخشوع تكبر المعاصي وتفسد الأخلاق وتُعمى القلوب والبصائر، وينعدم الرّجاء بالعودة عن الخطايا.
من يسمع بيانات وأحاديث المؤسسة الدينية السورية المسيحية- الإسلامية يرى أنّهم لا يوفِّرون فرصةً في تنصيب أنفسهم معلِّمين على كل من تسنح لهم الفرصة للقائه من قادة أديان العالم، في حين أننا لا نسمعهم أبداً يدعون المسؤولين والحكّام أو الشعب في هذا البلد للتواضع والانكسار أمام الربّ، ولكنهم بدلاً من هذا نصّبوا أنفسهم إمّا واجهات إعلامية ومثيري حماسة في الجيوش، أو أنبياء كَذَبة يَعِدون بالسّلام والرّخاء، كما كان يفعل أنبياء البعل في أيّام إيليا في إسرائيل القديمة، ويعدون ببركاتٍ وهمية متجاهلين دينونات الربّ على المفاسد والشرور والخطايا.