يهوشوع المتمرِّد والسّاخر من السّلاطين


بقلم فادي أبو ديب

كثيراً ما تنشر المؤسسة الدينية المسيحية نموذجاً رائجاً للمعلِّم يهوشوع الناصري؛ هذا النموذج محبَّب كثيراً من سادة المجتمع وسلاطينه لأنّه ببساطة يقلِّم أظافر رسالته التي هدّدت كلّ ذي سلطان في القرون الثلاثة الأولى، وفي مناسباتٍ عديدة خلال ألفي عام من تاريخ الرسالة المسيحية.

ولكي لا نكثر من الكلام والتفاسير لنتأمّل جيّداً في ما قاله معلِّم الجليل وفي ما لم يقله أيضاً ! نعم…في ما لم يقله، فقد كانت كثيراً من مواقفه الصامتة أبلغ تعبيراً من ثوراتٍ كاملة. وفي حين تلجأ المؤسسة الدينية، وأعني بها كلّ مؤسسة تحتاج لترخيص وثبوتيات حاصلة على رضى المجتمع والسُّلُطات ومؤسسات دينية أكبر حتى لو كانت من ذات المذهب وذات العقيدة، حين تلجأ إلى ليّ نصوص معيّنة وأخراجها خارج سياقها، لا بل وخارج معناها الذي نستطيع معرفته بدقّة من سلوك قائلها نفسه، يبقى الإنجيل نفسه شاهداً على خيانة المؤسسة لإرث معلِّمها.

لنقرأ جيّداً السطور التي تسرد مواقف يسوع القليلة، ولكن المعبّرة، مع أصحاب “السّلطان”، ومن ثمّ لنتأمّل معاً كيف أنّنا، وبسبب حاجتنا لأمرٍ معيّن، نضطرّ أحياناً للخنوع والذلّ أمام أصحاب المراكز والمناصب. وبحجّة احترام السُّلُطات “المرتّبة من الله” ، الصغيرة والكبيرة، وبحجّة “رقيّ المسيحية”، نترك لأولئك الظالمين حريّة العبث بإنسانيتنا.
يهوشوع الناصري لم يترك نفسه أساساً في حاجةٍ لشيء يستطيع أحدهم إمساكه عنه. لم يترك نقطة ضعفٍ قاتلة تمكّن أحداً من أن يستغلّه من أجلها. حتى عندما أخبره بيلاطس البنطي بأنّ له سلطة أن يطلقه وسلطان أن يقتله، أخبره بأنّ سلطته هذه من الله

بشارة يوحنا مرقس تنقل لنا موقفين قلّما فكّرت المؤسسة بأن تفكّر فيهما. الموقف الأوّل عندما أُلقي القبض على المعلِّم الناصري وسيق ليقف أمام حنّان وقيافا. وفي حين كان شهود الزور يتبارزون لإثبات شهاداتهم المتناقضة، كان هو ساكتاً لا يجيب بشيء. تخيّلوا لو كنّا مكانه! كم كنّا سنندفع لنبرِّر أنفسنا أمام أصحاب السُّلطة، ولنبيِّن براءتنا وكم نحن نستحقّ المديح لحكمتنا وجودة عملنا! لم يجب بشيء، لأنّه لم يحتج لأيّ اعترافٍ من صاحب سلطان. ليس بحاجةٍ أن يُدعَم ولا أن يُعتَرَف بأحقّيته أو بأنّه أفضل من باقي المعلّمين وهو الذي قال أنّه والآب واحد. كان مكتفياً بمحبّة اللآب وواثقاً مما هو عليه. الاعتراف الذي أراد لتلاميذه أن يقدّموه كان فقط لكي يحقّق تلاميذه هذه المعرفة المحرِّرة. كان من أجلهم، أولئك الأصدقاء والأحبّاء، وليس من أجل حاجةٍ لديه.

عندما سأله رئيس الكهنة: “أأنت المسيح ابن المبارك؟، لم يلهث لكي يثبت له مَن هو! فلو أراد رئيس الكهنة أن يعرف لعرفه من أعماله، من سلوكه، من وقفته ونظرته ووداعته. أجابه يهوشوع بعبارةٍ واحدة:

“أنا هو. وسوف تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً في سحاب السماء.”

هذذا الردّ الساحق جعل رئيس الكهنة يمزّق ثيابه، مما يعني أنه اعتبر أنه اعتبر أن ما سمعه من يهوشوع، والمقتبس من الفصل الأخير من سفر دانيال، يحمل تجديفاً لا يُطاق. ولكننا هل فكّرنا أنه قد يحمل في طيّاته إهانةً لا توصف؟ ماذا لو وقف حدنا أمام مسؤولس كبيرٍ في مؤسسة أو في دولة وقاله له “ستنزل عليكم دينونة الرب وسترون بأمّ أعينكم الغضب الإلهي مصبوباً صِرفاً”؟. ردّ يسوع يحمل ذات المعنى، وعلى الأغلب فقد فهمه رئيس الكهنة كتهديد؛ تهديد نُفِّذ جزءٌ منه بشكلٍ قاسي في دمار الهيكل وأورشليم في عام 70م على يد الجحافل الرومانية بقيادة تيطس.

الموقف الأبرز ليهوشوع كان هو الموقف الذي لم ينبس فيه ببنت شفة. وقوفه أمام هيرودوس، رئيس منطقة الجليل. فعندما أرسله بيلاطس إليه، بدأ ذلك الملك الماجن بطلب اعاجيب منه، ثم سأله اموراً كثيراً لم يجبه يسوع عن أيٍّ منها كما يقول الفصل 23 من إنجيل لوقا. لماذا لم يجبه يهوشوع؟ لماذا لم “يبشّره” او يشرح له كما كان يفعل دوماً؟ لماذا لم يهدّده بالدينونة كما فعل مع رئيس الكهنة؟

السؤال الأكبرهو: هل كان وقوفه صامتاً أمام هذا الماجن الذي يتقافز من حوله، طالباً تارةً أعجوبةً وتارةً أخرى جواباً عن سؤال، نوعاً من إهماله إعطاء أيّة قيمة لملكٍ قطع رأس المعمدان من أجل راقصة في حفلة سُكرٍ خلّيعة؟ هل كان في ذلك سخريةً؟!

تخيّلوا لو دخل أحدنا متَّهما زوراً إلى مكتب مسؤول كبير وبدأ هذا يسأله عن اسمه وعمله وتفاصيل اخرى، هل يجرؤ أن يبقى رافع الرأس صامتاً؟  موقف يهوشوع كان فيه سخرية لا توصف ممن وصفه هو نفسه بالثعلب. وكلّنا يعلم بأننا عندما نصف إنساناً بالثعلب فنحن نتذهمه بأنّه لص ومخادع وجبان. أجل، لقد أوصل يهوشوع رسالةً للملك الذي أرسل يهدّده بأنه سارق ومحتال وجبان ! (لوقا  13: 32) هل كان عدم ردّه تطبيقاً لمبدأه الشهير “لا تطرحوا درركم قدّام الخنازير أو لعبارته “لا تعطوا ما هو مقدَّسٌ للكلاب؟

سيسألني أحدهم “هل من المعقول ان يفكِّر المعلّم بهذه الطريقة؟”، وسأجيبه بأنّ كلّ إنسانٍ يحكم على نفسه بسلوكه. والحقّ ينوِّر العقل والقلب، والحكمة تنير الدرب، ومن المهمّ أن يميّز المرء نفسية من يتعامل معه. والمؤسسة التي ستكون “أكثر أدباً” من معلِّمها هي مؤسسة متملِّقة ذات لسانين، تهمّها سمعتها وصورتها أكثر مما يهمّها مجد معلِّمها وأبيها الذي في السماوات.

التفاصيل الأكثر ينقلها لنا يوحنا هو لقاء يهوشوع المزدوج مع بيلاطس، ولعلّ هذا يعود لمعرفة يوحنا الجيدة بأوساط الكهنة القادرين على استجلاب التفاصيل من بيلاطس نفسه. قدّم المعلِّم رسالة قصيرة وواضحة وحازمة لبيلاطس الذي كان الأكثر جهلاً من هيرودوس ورئيس الكهنة، فاعطاه يهوشوع اكثر ممن يدّعون معرفة الرب والكتب المقدَّسة.

فعندما سأله هذا الأخير إن كان ملك اليهود، أجابه قائلاً “أمن ذاتك تقول هذا أم آخرون قالوا لك عنّي؟. يهوشوع ردّ سؤال بيلاطس بسؤال وضعه كتحدٍّ أمام ذاته، وكأنه يقول له “هل سؤالك نابعٌ من رغبة حقيقة بالمعرفة أم أنّه مجرّد تحقيق للاستفسار عما أخبروك به عنّي؟. لم يندفع المعلّم ليفسّر نفسه ويشرح “عقائده” ومقدار سلميته ومحاسن رسالته لفائدة المجتمع ولروما، ولكنه ببساطة عامل الوالي الروماني كأيّ إنسان آخر، مختبراً رغبته الحقيقة بالمعرفة.

عاد بيلاطس للسؤال رداً على قول يهوشوع بأنّ مملكته ليست من هذا العالم: “أفأنت إذاً ملك؟، فلم يجد المعلِّم بدّاً من أن يجيبه “أنت تقول ثم استطرد “لهذا قد ولدت أنا ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق. كل من هو من الحق يسمع صوتي.”

بدا واضحاً ان بيلاطس يقوم بتحقيق والدليل أنه سأل يهوشوع بعدها مباشرةً “وما هو الحقّ؟ وخرج بدون أن ينتظر جواباً، وهذا يعني ضمناً أن بيلاطس لم يكن يسأل لكي يعرف بل لكي يقول “لا يوجد حقيقة في هذا العالم“.

عندما عاد بيلاطس ليسأل مجدّداً يهوشوع “من أين أنت؟ لم يجبهالمعلِّم بأيّ كلمة بل وقف صامتاً. وهنا يلمّح الفيلسوف الدانمركي كيركيغارد بأنّ بيلاطس كان يريد عقيدةً أما يهوشوع فلم يكن يملك سوى نفسه لتقديمها. كان هناك افتراق جوهري بينهما حول ماهية “الحقيقة”.صمت يهوشوع أمام والي روما، فالذي لم يعرف الحق وهو يقف أمامه لن يعرفه أبداً، كما يقول كيركيغارد.

يهوشوع تحدّى نظرة بيلاطس لنفسه حين أخبره بأنه ليس له سلطة عليه لو لم يُعطَ من فوق. وهذا ضمنياً يشير بأنّ يهوشوع لا يرى كل عظمة روما بل يرى الذي بيده روما وكل سلطتها ونفوذها. معلّم الجليل لم يشعر بانّه بحاجةٍ لكي يوضّح نفسه أمام ذوي السلطان، في حين أنه تفانى في إعطاء نفسه أمام المقهورين والبؤساء والزواني والمساكين. السبب بسيط وهو لأنّه كما في كلّ حين، غالباً ما يكون اولئك البسطاء والمساكين بالروح أكثر رغبةً في الخلاص والمعرفة، في حين يكون أصحاب المراكز والنفوذ في المؤسسات والدول فخورين بما هم عليه وبمن يعرفون.

تستشهد المؤسسة التي تقول انها تتبع المعلِّم الجليلي بموقفه من دفع الجزية، ولكنها تنسى أنه دفعهابعد أن أمر بطرس بأن يصيد سمكةً ويخرج من فمها النقود التي يجب دفعها!

وهل من سخريةٍ أعظم من هذه؟!!

ولا تكلِّف هذه المؤسسة نفسها عناء التفكير فيما يعنيه ان  المعلِّم لم يدفع من صندوق المال الذي يعود له ولتلاميذه، والذي كان في حوزة يهوذا الإسخريوطي أحد تلاميذه، بل كلّف بطرس بأن يصيد السمكة ويدفع عن كليهما.

المؤسسات الدينية ترغب دوماً في الحصول على اعتراف رسمي وتراخيص وصورة مؤسساتية حسنة. المؤسسة تخاف السلطات رغم كل ما تقوله، أما يهوشوع فلم يكن يرى في السّلطة أيّ نفوذ عليه لا في الروح ولا في الجسد، فعاش بدون أن يخاف أن يغلق له أحداً بيت صلاة لأن الأرض كلّها بيته، ولا ان يعتَبر وتلاميذه ثلّة من الجهلة والخارجين عن احترام السّلطة، فعلّمهم أنه لا يكون بينهم سلطات ومراتب كما هو الحال عند الأمم وملوكها وأن يكون الأوّل فيهم خادماً لهم. لقدر كانت رسالة المعلِّم الجليلي التي طبّقها تلاميذه في أورشليم وغيرها تهديداً حتى لقياصرة روما وللمؤسسة اليهودية التي رأت بوادر دمارها على يد هذا المفهوم الثوري لبشرٍ لم يروا سلطةً في العالم إلا سلطة محبة الآب والقريب. يهوشوع علم ما هو الأهمّ وأرادنا أن نعرفه. الأهمّ هو مجد الآب المتمثِّل في صورته فينا، التي يحقّ لنا أن نتمرّد حتى النهاية للحفاظ عليها وإظهارها.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.