ذنوب دمشق:2- قتل الضّمير


بقلم فادي أبو ديب

في الظروف العصبية والدّموية التي تمرّ بها سوريا، تتكاثر الأخطار التي تحيق بكل فردٍ وبالمجتمع الإنساني في هذا البلد بشكلٍ عام. ورغم أنّ الخطر الأكبر الظاهر حالياً يكمن في انعدام الأمان وازدياد نسبة الدّموية والهمجية من كلي الطرفين المتصارعين على السُّلطة، إلا أنّ الأخطار الحقيقية الموجودة حالياً والتي تحجبها سُحُب الدّماء الحالية، ستتبدّى بصورةٍ أوضح في المستقبل أيّاً كان المنتصِر.

أبرز الأخطار الدّاهمة، والتي ألمّت بهذا المجتمع، هو مرض انعدام الأخلاق. بالطبع فإنّ مجتمعنا يعاني أصلاً من غياب منظومة أخلاقية قويّة ورادعة، وهذا بسبب سمة عصرنا الحاضر، وبالدرجة الأولى بسبب ضعف أساساتها الموجودة في أيديولوجية قابلة أصلاً لليّ والتكييف كيفما شاءت الجماعة. ولكن ما يحصل الآن هو إطلاق رصاصة الرّحمة على الضمير الإنساني، فكلا الطرفين، من أزلام النّظام والمعارضة، فتحا الباب واسعاً على مصراعيه أمام كلّ التصرّفات السّافلة والهمجية، من كذبٍ ممنهَج منظَّم وفبركة واختلاق قصص وسرقة ونهب وذبح وقتل. وكلّ هذا تحت عناوين عريضة تُسمَّى بالاسم المطّاط الذي فيه أصلاً الكثير من اللامعنى، والذي هو “الوطنية”.

في هذه الظّروف فُتِحت أبواب الجحيم لكل المرتزقة والمنتفعين، وأصبحت الغوغاء تدير صحفاً وشبكاتٍ إخبارية، وتدلي بآرائها مهما كانت بعيدةً عن كلّ علمٍ إنسانيٍّ واجتماعيٍّّ وأخلاقي. وأصبح كلّ طرفٍ يريد انتزاع المناصرين والمؤيِّدين بدون حتى الرّغبة في أن يكون لديه ولو عيّنة صغيرة من الأخلاق والحكمة، وبدون ان يكون لديه نظريّة أو مبدأ يدافع عنه. هذا من دون ذكر إقحام كلّ الأمراض والحوادث التاريخية، من حادثة كربلاء وحتى قضيّة فلسطين. كما صار كلّ من يرمي سهماً باتجاه عدوٍّ ما بطلاً وقدّيساً في نظر الحشد الغوغائي عديم الأخلاق الذي يؤيِّده.

الخطر الثاني يكمن في الحضور القويّ للثقافة البدائية المنغمسة في اللاإنسانية، والمتمثِّلة فيما يأتي من جزيرة العرب وخليجها البعيد منذ فجر التاريخ عن أيّ نشاطٍ فِكريّ حقيقيّ. فشرائح واسعة من المجتمع السوري باتت اليوم رهن إشارة بعضاً من شيوخ القبائل ورجالهم من دعاة الكراهية المسلَّحين بأموالٍ لم يتعبوا فيها، ولم تكن نتاج أيّ حِراكٍ حضاريّ.

تخيّلوا الكارثة: منطقة من العالم تعيش في البداوة لآلاف السنين (وهذا ليس عيباً)، تتعرض فجأةً لطوفانٍ ماليّ هائل. ولأنها في الأصل لا تملك إلا ثقافةً بدائيّةً ظلّت قائمةً على الثأر والغزو القبلي حتى بدايات القرن العشرين، لم تستطع إلا أن تستعمل مالها في هذا السِّياق، رغم تطوّر أساليب الغزو الديموغرافي إلى الغزو “الأفكاريّ الغرائزيّ” (وليس الفكري). وبما أنّ كثير من شرائح المجتمع السوري تشعر بالتهميش، فقد أقبلت على الغازي الجديد مرحِّبةً مهلِّلةً وكأنّه مسيحها المخلِّص!

الخطر الآخر سيظهر لاحقاً في حال انتصر أحد الطرفين على الآخر. فمعظم الذين كان لديهم نقاط استفهامٍ على عمل النّظام من بعض شرائح المجتمع السوري، باتوا الآن يلتصقون به بفعل الخوف والحاجة الحقيقية للحماية من الغزو السابق. ولكن الخطر يكمن في أنّ النظام، في حال انتصاره، سيظهر كإلهٍ غير قابلٍ للهزيمة، معزِّزاً بذلك الفكرة الموجودة أصلاً عند بعض العامّة والبسطاء. ولكنّ هذه الحالة ستصبح أكثر عموميةً، فخلال العقود الماضية قامت السُّلطة بكل ما يلزم لخنق ضمير الفرد وإسكاته، وقد نجحت في هذا إلى حدٍّ بعيد مع البعض الذين تعلّموا الصّمت، ولكنها فشلت مع آخرين رغبوا في عدم الخضوع فوقعوا في خطيئة بيع ضمائرهم في أسواق النخاسة البراغماتية واللاأخلاقية. ورغم أنّ قتل الضمير كان سمة العقود المنصرمة، إلا أنّ الضلالة العظمى القادمة ستكون أشدّ وَقعاً لأنها ستكون كالقيامة من بين الأموات لمن كان قريباً من الاضمحلال والفناء.

من يسمع الخطاب السُّلطوي في سوريا، ومن يتجوّل في شوارع البلد وينظر إلى الخطاب السياسي الإعلاني، يجد أنّ الأداتية والنفعية قد بلغتا مبلغاً يشير إلى مدى الانحطاط المبادئي في هذا المجتمع. والسؤال يبقى في ذهن الفرد المفكِّر بحسب رؤيته لهذه الشعارات: ما هي هويّة هذا النظام؟ هل هو عَلمانيّ ليبرالي، أم شيوعيّ، أم إسلامي معتدل على النموذج التّركي؟

فمن يسمع بعض الخطابات يجدها تفيض بمبدأ المساواة والحريّة والمواطَنة يظنّ انّه يسمع خطاباً عَلمانيّاً ليبرالياً، ومن يقرأ الدّستور الجديد أو يرى بعض اللافتات المنتشرة في الساحات يجد عناصر كثيرة من الإسلامية السّياسية، أمّا من يقرأ الأدبيّات المناهضة للرأسمالية والإمبريالية العالمية يظنّ أنّه يعيش في ظلّ مجتمعٍ ماركسيّ !

ولكن هل يختلف النظام عن الشعب الذي ينوء تحت سلطته؟ في الحقيقة فإنّ الجواب هو بالنفي. فالحشد المعارض، السلميّ والمسلَّح، يتبع ذات السيناريو. فهو تارةً يتحدّث كمن تخرّج من مدارس الليبرالية الأوروبية، وطوراً كمن ترك بالأمس الجيوش الإسلامية التي تتجه لفتح الصين! نفس الجهات نسمع منها عدّة خطابات متناقضة في ذات الوقت.

قيادات الحشود (قيادات المعارضة) علّمت الناس أيضاً بأن الأخلاق والمبادئ غير ضرورية طالما في الإمكان تحصيل المنافع، وحتى قياداتهم الأكاديمية أثبتت أنها حصّلت درجاتها العلمية باتّباع طريقة تلاميذ المدارس في الحفظ والاكتساب الخالي من أيّ اعتناقٍ حقيقيٍّ للفكرة. فحتى من يدافع منهم عن العَلمانية، فهو يفعل هذ لتببيض صورته أمام هذا الطرف أو ذاك وليس لأنّه يعيش حقّاً هذه القضيّة ويحميها. وما نراه من “قيادات” معارضة لا تستطيع تقديم فكرة متكاملة أو جملة مفيدة هي أبلغ دليلٍ على ما أقول.

ولهذا فإنّ انتصار الغوغائيين والوصوليين (وهم الأغلبية الساحقة من المشاركين بالحِراك) في هذه الأحداث، سيؤدّي إلى تأليه “الثورة” وقيامها بالقتل الممنهَج لكلّ من يشكّون بأنّه معادٍ للإله الجديد (الثورة المقدَّسة!)، وستُرتَكب فظاعات اكثر من الفظاعات التي ارتكبها رعاع الثورة الفرنسية التي قتلت عشرات آلاف النساء والأطفال والشيوخ والفقراء والرّهبان والرّاهبات، حتى وصلت إلى رقبة قائدها روبزبيير نفسه!

إنّ الثورات الحقيقية في التاريخ هي ثورات فردية، والحشود لا يمكن ان تفتعل إلا الغوغائية. والمجتمع القريب قليلاً من الفضيلة لا يكون على هيئة دولٍ بل على هيئة تجمّعات صغيرةٍ محدودة تقوم على الزراعة، وعلى الصناعة والتجارة البسيطتين، كما هو الحال في الكثير من التجمّعات الرّيفية الصغيرة الحرّة في العديد من دول العالم.

أعظم ثورة لمصلحة الفرد والجماعة الصغيرة هي ثورة الأفراد الأحرار التي يمكن أن تؤدّي إلى تجمّعات تعاونية بسيطة. أمّا ثورات الشوارع والغوغاء فمصيرها فقط دفع الناس بسرعة أكبر إلى جحيم الفوضى واللاأخلاقية. فإن أراد الرّيفيون إصلاحاً فلا يطلبوه ممن لا يعرفونه، بل لينظّموا أنفسهم تعاونياً، وبشكلٍ غير رسميّ، في أريافهم، وهذا ممكن مهما بلغ فقرهم. وإن أراد المدينيّون ذلك فليعد معظمهم من حيث جاء، فيتم إصلاح الرّيف والمدينة، فالتجمّعات الغوغائية لا تنفع إلا لقتل الضمير.

إن دلّ كلّ هذا على شيء، فهو يدلّ على سياسة قتل الضمير التي تعلِّم الناس مبدأ “الغاية تبرِّر الوسيلة” في أشنع أشكاله، كما تعلِّم الأجيال الصاعدة بعدم ضرورة وجود مبدأ لكي يعيش الفرد والمجتمع بناءً عليه طالما أنّه يستطيع ردّ الأذى عن نفسه.

ما تعلّمه الإنسان في هذا البلد حتى الآن هو إمكانية التحالف مع الشيطان من أجل مصلحته. وهذا الضرَّر الروحي والأخلاقي العظيم هو من الأخطاء التي يصعب إصلاحها عند الفرد، ويستحيل عند الجماعة.

قد تتوقّف الحرب غدأ أو بعد غدٍ أو بعد سنوات، ولكن الانحلال الأخلاقي الذي وصل له هذا المجتمع لم يعد بالإمكان إصلاحه.

مواضيع مرتبطة:

ذنوب دمشق:1- الكبرياء الدينيّ

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.