كتبتُ كثيراً عن هذا الموضوع، وأدعو الرب الإله لأن يمدّني بالإيمان والقوة والبصيرة لأستمرّ في الكتابة عن نبوءات الكتاب المقدَّس، إلى أن يحصل الاختطاف أو أنتقل لعنده!
أشعر بالحسرة والأسى عندما أقرأ النقاشات التي تحصل على شبكات التواصل الاجتماعي والمدوَّنات، وأطّلع على أوراق البحث والمناظرات بين الأكاديميات وفي المجلات العالمية، والتي يشارك فيها عامّة الناس ومختصّيهم، حول الأحداث الجارية في عالم اليوم بشكل عام، وفي منطقة الشرق الأوسط خصوصاً. هذا الأسى مردّه تذكّري لما أراه من الحال الذي وصلت إليه الرغبة في المعرفة الروحية في بلدان العالم العربي والكنيسة العربية، فها كل العالم مشغول برؤية ما يحصل في الشرق الأوسط روحياً، في حين أنّ ساكني الأرض لا يبالون!
ونتيجة لهذا يمكننا الاستنتاج حال هذه الكنيسة ليست بأقضل من حال أنظمة هذه البلدان وشعوبها، لا بل أجرؤ على القول بأنها أكثر سوءاً في كثيرٍ من الأحيان. وهنا لا يمرّ في ذهني خيرٌ من مقولة المعلِّم الرب يهوشوع المسيح حين قال أن أبناء هذا الدهر (العالم الشرّير) أحكم من أبناءالنور في جيلهم! (إنجيل لوقا16: 8)
فها هي مصر تدخل في نزاعات وانقسامات مجتمعية حادّة مترافقة مع أزمات اقتصادية هائلة، وها هي سوريا تنجرف نحو نزاعات أهلية، تطوّرت في بعض المناطق إلى ما يشبه الحرب الأهلية الحقيقية. أمّا إيران وإسرائيل ولبنان فهم قاب قوسين أو أدنى من الدخول في حروب لا يمكن التكهّن بويلاتها ونتائجها من دون النظر إلى نبوءات الكتاب المقدَّس الواردة في أسفار حزقيال وإشعياء وزكريا وغيرها.
كل ما يحصل في العالم العربي لم يبدُ أنه حرّك ساكناً عند معظم أجنحة المؤسسة “المسيحية” في هذه المنطقة، ولم يدفع هذا الجزء الكبير للتواضع ولو قليلاً، والتخلّي عن بعض كبرياء المذاهب اللاهوتية، والعودة للقيام بدراسة أخرى لنصوص درسوها منذ عقود وفسّروها بحسب ما يقتضي المذهب او التيّار الذي يفاخرون بالانتساب له.
وأنا أهنا لا اتكلّم عن دراسة من أجل الدراسة، أو من أجل غلبة رأي لاهوتيٍّ على آخر، ولكن من أجل محاولة دراسة “علامات الأزمنة” التي دعا لها الرب يسوع نفسه في متى 16: 3، وهذه الدراسة تشمل مراقبة الأحداث ودراسة النصوص في ذات الوقت. فالدراسة النبوية المستندة فقط على النصوص المجرَّدة من الارتباط بالقلب الراغب في التبصُّر ليست دراسة مفيدة على الإطلاق. والمعلِّم نفسه دعا تلاميذ يوحنا المعمدان لمراقبة العمي يبصرون والعرج يمشون والمجانين يصحّون لكي يتعرّفوا عليه كالمسيح المخلِّص، ولم يدعهم فقط لدراس “صفات المسيح” بحسب التوراة والأنبياء بحسب المذهب الفرّيسي أو الصدّوقي أو الأسيني أو غير ذلك.
لا بل تلجأ الكثير من أجنحة المؤسسة “المسيحية” إلى المزايدات الوطنية أو الثورية في هذا البلد العربي أو ذاك، بدلاً من القيام بدورها في توعية الناس إلى ماهية الدينونات الإلهية، وماهية خطايا الشعوب والأمم التي استلزمت سكب هذه الدينونات. وإن كنا يمكن أن نجد مبرِّراً مقبولاً لهذا الموقف السياسي أو ذاك لأننا لا نريد أن ندين الناس الواقفين على بعض خطوط النار، إلا أنه لا يمكن إيجاد أيّ عذرٍ مقبول لإهمال التنبيه والتنبير على الصورة النبوية الواضحة لأحداث اليوم، والتي تقترب خيوطها شيئاً فشيئاً من تشكيل لوحات المشاهد الواردة في الأناجيل وكتب الأنبياء.
كما أن بعض المؤسسات يعيش في وهم أنه تجاوز مفاهيم الدينونة و”القسوة” الإلهية، وبات يعيش في برجٍ عاجي مصنوعٍ من أزهار وقلوب ملوّنة صنعها لنفسه، بدون أن يتذكّروا أنهم كان ينبغي لهم أن يفعلوا هذه (المحبة والوداعة) ولا يتركوا تلك(إعلان قوانين الرب ودينونته ودعوته الناس للتوبة). فتلاميذ يهوشوع وإن كانت مفاهيمهم عن الفداء والخلاص والنعمة وقبول الآخر المختلف مهما كان وغيرها من الأمور قد تطوّرت عن مفاهيم العهد القديم، إلا أن حقائق وثوابت تتعلّق بالرب الإله وامانته ووعوده وقوانينه الكونية لا يمكن لها أن تتغيّر. وإنّ الدينونة على الأمم بأسمائها وصفاتها بحسب الأحداث المُنبَأ عنها في كتب الأنبياء ستحدث لا محالة، شاءت مفاهيم البشر المتغيّرة في كل عام أم لم تشاء! فالرب الإله هوهو أمس واليوم وإلى الأبد، والرب ليس ابن آدم ليغيّر أحكامه الكونية.
جاء الرب في المرّة الأولى فكانت المؤسسة الدينية مشغولة بالحفاظ على مكتسباتها القليلة في ظلّ الوالي الروماني، وعلى صورتها أمام قيصر روما، فلم تتعلّم من دروس الماضي الرهيبة وأهمها السبي البابلي. توجّه هذه المؤسسة كان واضحاً في قول الكهنة الخائفين من أعمال يهوشوع:
” إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمّتنا.” (يوحنا11: 48)
هذا كان همّهم إذن! موضعهم، أي مركزهم، وأمّتهم!
خوف أولئك على صورة مؤسستهم، بالإضافة إلى وطنيتهم العميقة، لم تفدهم أبداً في تجنّب الدينونة الإلهية التي تجلّت في دمار أورشليم عام 70م، والتي حصلت على يد روما التي أرادوا تلميع صورتهم أمامها بقولهم “ليس لنا ملك إلا قيصر”!
ويبدو أن المؤسسة الدينية المسيحية لم تتعلّم من أخطاء أسلافها فها هي تعاني من مختلف أنواع الويلات منذ قرون، ورغم سبي معظم رعاياها وتشتتهم في العالم لعدة أسباب، لم تفكّر بأن تعود لكلمة الرب وتمييز “علامات الأزمنة”، بل استمرّت في عمل قيافا، الذي يريد تلميع صورته أمام هذا الحاكم أو ذاك، أو أصحاب هذه المؤسسة او تلك، أو أمام أصحاب هذا الدين أو ذاك المذهب أو تلك الدولة العربية أو الغربية. كانت جيوش محمد الفاتح تدكّ القسطنطينية ورجال دينها يتقاتلون على المناصب وعلى الآراء فكانوا سادة “الجدل البيزنطي” الشهير بعقمه! وأخشى أنّ الأوان قد فات في يومنا هذا على استيقاظ هذه المؤسسات بمختلف طوائفها، فلم يعد المجال ممكناً لإنقاذها الروحي، ما خلا أفراد منها سعوا بصدق للبصيرة الروحية.
كل الجعجعة السياسية لن تفيد المؤسسة الدينية، وبدلاً من الهروب إلى الأمام، ينبغي افتداء الوقت وتوفيره في تعليم من تعتبرهم رعاياها حقيقة ما يحصل في مصر ودمشق وإسرائيل وغيرها، وبدل من أن تغرق الدنيا بالشعارات السياسية الفارغة التي لن تفيدها عند مجيء سيّدها، عليها أن تقف ولو لمرّة لتسأل: هل من المصادفة ما يحصل في دمشق؟ هل من المصادفة التاريخية ما يحصل في مصر؟ هل توضِّح لنا نبوءة حزقيال عن ماجوج (روسيا) وتحالفها مع فارس(إيران) وكوش (السودان) شيئاً عن التحالف الروسي- الإيراني الواضح والسوداني- الإيراني الخفيّ؟ ماذا يعني عودة ماشك وتوبال (تركيا) لتوسعها الإمبراطوري في منطقة الشرق الأوسط؟ ما الذي يعنيه استمرار الكراهية بين احفاد اسماعيل العرب وأحفاد اسحق اليهود؟ هل “القضية الفلسطينية” مجرّد قضية كقضية كوسوفو أو تيمور الشرقية او جنوب أفريقيا سابقاً؟ ما الذي يعنيه أن يبقى اليهود محتفظين بهويتهم لما يزيد عن 3500 عام رغم كل الاختلاط والتشتت والمذابح ومحاولات محيهم في اوربا القرون الوسطى والقرن العشرين؟
الأزمات السياسية واالعرقية والمذهبية تزداد والأحوال الاقتصادية تنهار بسرعة كبيرة، والحكيم في هذه الأيام من ينظر في الاتجاه الصحيح ويرفع رأسه إلى السماء من حيث يأتي ربّ المجد الذي نترجّى بشوق حضوره المبارَك.