ليست الأحداث التي بدأت في سوريا منذ آذار/مارس من العام 2011 مجرَّد نتائج لانقسامات سياسية أو اجتماعية أودينية، كما أنها ليست مجرَّد حاصلٍ لمشاكل اقتصادية ومعيشية مستعصية في ذلك البلد، بل إنّ هذ الأسباب كلّها لا تعدو كونها الوجه الظاهر لجذرٍ أعمق لا يدخل عادةً في وجهة نظر معظم الناس. وهو بالتأكيد لن يظهر في الإعلام والمحافل الدولية، وهذا شيء مفهوم، فالنظام العالمي لا ينظر للمبادئ الروحية بعين التقدير أو الجدّية.
وقد ذكرت في مقالتين سابقتين من سلسلة “ذنوب دمشق” (توجد روابطهما في نهاية هذه المقالة) أنّ هناك، كما في كلّ أمّة، عدداً من الخطايا العامة المستفحلة في هذا البلد. ومن هذه الخطايا الكبرياء الديني وقتل الضمير الإنساني في الفرد، وهذه الخطايا تتم ممارستها وتعليمها من السلطة الحاكمة ومن القيادات الشعبية على حدٍّ سواء. وهذا الجزء مخصّص للحديث عن تعنُّت السُّلطة الحاكمة، على أنّ اتحدّث في الجزء القادم عن تعنُّت المتمرِّدين.
إذن فإنّ الأحداث الرهيبة التي بدأت بالنزول على سوريا منذ العام الماضي لم تحصل لمجرَّد وجود مؤامرةٍ كونية أو حلمٍ بالحريّة عند بعض الشباب الحالمين بالديمقراطية أو عصابات مسلِّحة تهوى التخريب. قد يوجد بعضٌ مما سبق، ولكن الأسباب الروحية والأخلاقية هي ما يستحق أن نتفكّر بها فعلاً.
فالنظام في دمشق مارس خلال عقودٍ طويلة كثير من أنواع القمع وتقييد الحريّات على أشكالها، بالإضافة لفسادٍ قلّ نظيره في العالم؛ فسادٌ من النوع الذي تحوّل إلى ما يشبه ثقافة شعبية عامّة، وعنصر لا يمكن التخلّي عنه بسهولة في كلّ مفصل من مفاصل الحياة. وهذه الأسباب وما يتفرّع عنها من موبقات كفيل لوحده بتعليل الكثير مما يحصل اليوم، فلا يمكن لأي مؤامرة مهما كان خبثها وشدّتها أن تجعل محافظات كاملة أو شبه كاملة تتمرّد وتخرج عن القانون أو على الأقل تناهض النظام وتعارضه وترغب بزواله، كما هو الحال في إدلب وحمص ودرعا وأجزاء كبيرة من حماة وحلب وريف دمشق واللاذقية.
ورغم وجود تدخّلات دولية وعربية وكبيرة سرّية وعلنية، إلا أنّ النظام لم يستوعب بعد أن استمراره فعلياً مستحيل بدون تدمير أجزاء واسعة من البلاد ديموغرافياً واقتصادياً، وهو ما يحصل فعلاً على أيّ حال. فحتى لو انتصر النظام كلياً وأخمد كل تمرّد حاصل فهو لن يتمكّن من محو الحقد العميق والكراهية المستعرة في قلوب الكثيرين تجاه الكثيرين، ولن يتمكّن من استعادة العافية الاقتصادية بدون رفع العقوبات عنه، والتي من غير المتوقَّع أن تزول في ظلّ وجوده.
وللأسف فالنظام ما زال يتصرّف بطريقة العملاق الذي يظنّ أنه لا يمكن أن يُقهَر، ويستدلّ على ذلك من تحدّيات كبيرة تمكّن من تجاوزها عبر تاريخه الطويل. إلا أنه، وللأسف، ينسى أو يهمل بديهيةً وحتمية تاريخية بسيطة، وهي أنّ كل نظامٍ سيزول لا محالة. والفرق هو في حال البلاد التي ستؤول إليه من بعده بفعل تصرّفاته.
النظام السوري يتصرّف كما تصرّف قبلاً نبوخذنصّر الذي ظنّ لوهلةٍ، بفعل انتصاراته، بأنه إله. وبدل أن يتعلّم من تاريخ الإغريق وروما وهانيبعل قديماً، ودول المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية حديثاً، ما زال يظنّ أنّ الفرصة سانحة ليستمرّ ربما لبضعة عقودٍ أخرى في السُّلطة.
نقرأ في السجلّات التاريخية في بلاد الرافدين وفي الكتاب المقدَّس عن عظمة المملكة الآشورية وبطش جيوشها وشدّة بأسها، إلا أنّ انهيارها السريع والمفاجئ يقدّم درساً على أنّ هذه الحتمية التاريخية لا بدّ حاصلة. ويدين الكتاب المقدَّس، في سفر إشعياء النبي الكبرياء الآشوري، فيعلن أنه وإن كان الربّ قد استخدم هذه الأمّة لتأديب أممٍ كثيرة، فإنّ هذا ليس بمبرِّرٍ لتكبّرها ووحشيتها. وبدل أن تتوب الأمّة وتشكر الرب على البركات التي كانت تنعم فيها، ظلمت وتجبّرت وأرادت أن تحتلّ هيكل الرب لتحوّله إلى معبدٍ وثنيٍّ آخر. ولهذا يعلن النبي قائلاً:
ويلٌ لأشور قضيب غضبي. والعصا في يدهم هي سخطي. على أمّة منافقة أرسله وعلى شعب سخطي أوصيه ليغتنم غنيمة وينهب نهباً، ويجعلهم مدوسين كطين الازقة. أمّا هو فلا يفتكر هكذا ولا يحسب قلبه هكذا، بل في قلبه أن يبيد ويقرض أمماً ليست بقليلة. فإنه يقول أليست رؤسائي جميعاً ملوكاً ؟!
لهذا توعّدت النبوءة بمعاقبة المملكة وكسرها بسبب أنها أصبحت ترى نفسها وكأنّها ربّ الأرباب ولا يمكن هزيمتها، فنقرأ في الفصل العاشر من هذه النبوءة هذا التحذير من الدينونة القادمة على تلك المملكة التي سبق الرب وأرسل إليها نبيّيْن لتحذيرها هما يونان وناحوم:
فيكون متى أكمل السيد كل عمله بجبل صهيون وبأورشليم، أني أعاقب ثمر عظمة ملك أشور وفخر رفعة عينيه، لأنّه قال بقدرة يدي صنعت وبحكمتي. لأني فهيم. ونقلت تخوم شعوب ونهبت ذخائرهم وحططت الملوك كبطل، فأصابت يدي ثروة الشعوب كعشٍّ. وكما يجمع بيض مهجور جمعت أنا كل الأرض ولم يكون مرفرف جناح ولا فاتح فم ولا مصفصف.
وهنا يأتي السؤال الذي ينبغي لكل صاحب سلطةٍ أن يسأله لنفسه إن كان مخلصاً ومتواضعاً:
“هل تفتخر الفأس على القاطع بها أو يتكبر المنشار على مردِّده. كأنّ القضيب يحرِّك رافعه! كأن العصا ترفع من ليس هو عوداً !”
معظم الحكأم المتسلّطين لا يستطيعون التفريق بين الصّمود المقاوم وبين الكبرياء القاتل. والفرق الأول والأهم بينهما هو أنّ الأول قد يودي بحياة صاحبه وحده في سبيل قضيّةٍ ما، أما الثاني فيأتي بالخراب والدمار على أهله ورعيّته وشعبه.
يذكر لنا التاريخ أن النبي إرميا قد حذّر آخر ملوك مملكة يهوذا وهو صدقيا من التمرّد على ملك بابل. أراد هذا الأخير ربما أن يصنع بطولةً كما فعل أجداده، ليُذكَر بشكل حسن بين أبناء شعبه. لم تكن رغبته في السموّ الروحي والأخلاقي بأمّته هو دافعه لهذه المقاومة، بل ضعف شخصيته وخوفه من تخريب سمعته بين اليهود. لقد كان يملِك على أمّةٍ في أقصى حالات فسادها وانحدارها الروحي والأخلاقي، إلا أن كبرياءه وكبرياءهم لم يسمحا لهم بتسليم أنفسهم لجيش البابليين (الكلدانيين).
ونقرأ في الفصل 38 من كتاب إرميا النبي محادثةً بينه وبين الملك صدقيا الذي جلب على أمته الدمار، وعلى الهيكل الخراب، وعلى أولاده وشعبه القتل والذبح.
ورغم صدق التحذير، اتهم القادة السياسيون والعسكريون النبي إرميا بما يشبه تهمة “وهن نفسية الأمة”، فقالوا للملك:
” ليُقتَل هذا الرجل لأنه بذلك يضعِف أيادي رجال الحرب الباقين في هذه المدينة وأيادي كل الشعب إذ يكلِّمهم بمثل هذا الكلام، لأنّ هذا الرجل لا يطلب السلام لهذا الشعب بل الشر.”
الكبرياء إذن جعل القادة غير قادرين على التفكير السليم وجرّوا شعبهم كلّه للذبح بسبب رغبتهم في المجد الشخصي. أما صدقيا الملك، فاجتماع خوفه من القتل وتردّده الشخصي مع رغبته في عدم تشويه سمعته دفعاه لعدم الخروج عن رأي قادته، فكان موقفه هو هذا نهاية الفرصة الأخيرة لإنقاذ الشعب.
يبدو المشهد اليوم في دمشق قاتماً، فتعنّت النظام والمتمرّدين يبدو بدون أفقٍ. ويبدو أنّ النظام لن ينطق كلمة الفصل التي كان يجب أن يقولها منذ عام او أقلّ قليل، على اعتبار أنه الأقدر على اتخاذ القرار من مجموعات شعبية غير منتظمة، ولا ريب أنّ مصير دمشق على هذه الحال لن يكون أفضل من مصير أورشليم القرن السادس قبل الميلاد.