تطويبات المشتاق


بقلم فادي أبو ديب

“أحياناً حين أجلس قريباً من شجرة زيتون وأتذكّر التطويبات، هنالك شيءٌ ما يختلف.
لا ريب أن يسوع جلس منذ 2000 عام كما أجلس أنا الآن، ولربما كان يتّكئ على جذعها الخشن، أو ربما كانت أصابعه تلاعب أوراقها الجافّة المتساقطةعلى الأرض.
لحظاتٌ قليلة أحس فيها بأنّ نور عبارته “طوبى للحزانى…”تتحدث كل ألم إنسان عطشان إلى البِرّ والصّفاء والنّقاء والأصالة؛ كل متألِّم توّاقٍ إلى شيءٍ دافئ الإحساس حتى الإحراق، بارد برودة الجليد الطاهر البتول الذي لم تمسّه إلا يد الله.
هل تظنون أنّ يسوع أعطى تعاليم في التطويبات؟
لا وألف لا؛ لقد سكب توقه وألمه وأمله اليقيني كيقين رؤيته لوجه أبيه الذي يعشق. يسوع كان ثائراً ولكنه كان مسكين الرّوح متواضعها؛ يسوع هو من كان حزيناً وجائعاً للبِرّ، ظامئاً له. لقد طوّب الودعاء وهو الوديع…”

هنا توقفت الخاطرة
– صافيتا 28/ 6 /2011

نحن من نفهم شجر الزيتون ونرى وجه المخلِّص محفوراً في جذوعها ومتشكِّلاً عبر عطر زيتها. كلّما كنا نسمع قصصه في المدرسة، كانت قلوبنا تسير معه في جبال الجليل وبستان جثسيماني وجبل الزيتون ونحن نعلم أننا نعرف جيداً كل الأشجار التي كان يسير بينها ويلامسها وينسج بينها وعنها قصصه نعرف فيما كان يتامّل وهو يحلم بملكوت الله.

لم يكن يسوع من المنظِّرين الأخلاقيين بل كان يعيش ما يقول، وكان يعرف إرادة الآب لأنه في شركةٍ روحيةٍ دائمةٍ معه. ربما يسأل البعض: كيف يتوق المعلِّم للبِرّ وهو البارّ، وللتعزية وهو الفرح بالرّوح دائماً؟! وكيف يتحرّق شوقاً للأرض الممتلئة عدلاً وإنصافاً للودعاء وهو العالِم بأنه سيملكها يوماً ماً؟! ولكن، هل يُسأَل البعيد عن شوقه لبيته وأهله وهو عارفٌ بأنه سيعود يوماً ما، وهل يُحاسَب العريس إن  هامَ شوقاً لعروسه وهو متأكِّدٌ أنهما سيكونان لبعضهما البعض طالما أنّ في كلّ منهما نسمة حياة؟

هكذا كانت روح المعلِّم مشتاقةً لعالم البِرّ الذي تخلّى عنه كي يعيش حياة الشقاء في هذا العالم البائس. لقد احتاج للتعزية ككلّ متألِّمٍ، واحتاج للرّحمة ككلّ مظلومٍ، وتاقَ لمملكة السلام كما تاق لها كل فقير ومطرودٍ ومتروك. لذلك فالتطويبات كانت رجاءه الخاص وليست وعوداً من حاكمٍ لمحكوم، وكانت أمله كمتألّمٍ على مصير العالم كأي جائعٍ آخر للبِرّ. تاق لأن يشبع مجدَّداً من بِرّ ابيه السماوي في عالمه العُلويّ الكليّ الصَّلاح. فكيف لا يعطش وهو يرى الظلم والقهر والبؤس والخطيّة في كلّ زاويةٍ من الزوايا.فإذا كان الناقصون كإيليا وحبقوق وإرميا وإشعياء تاقوا للبرّ بعد أن تعذّبت أرواحهم من هذا العالم، فكم بالحريّ يتعذّب الكامل؟!

“طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعَون”، قالها وهو عالمٌ أنّ مهمته في صناعة السلام ستُكلَّل بالنجاح فكان مدرِكاً تماماً لحقيقة بنوّته للآب. كان مدركاً لها في كل لحظة فعاش بها لحظياً وفعل بها المعجزات.

كم نحن بحاجةٍ لأن نتفكّر مليّاً بحقيقة سلوك ودوافع ومشاعر معلِّمنا العظيم! علّنا نتعلّم شيئاً يجعلنا على صورته، بدلاً من الدوغمائيات والعقائد التي وإن نفعت في معرفة الحقائق المجرَّدة، إلا أنّها لا تنفع إلا النَّذَر اليسير في عيشنا اليومي واللحظي كمعلِّمنا الأعظم.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.