هل كل أحكام التاريخ عادلة؟ قد يبدو هذا السؤال تافهاً لأنّ المتوقَّع والبديهي أن يكون الجواب الواضح هو “كلا، بالطبع ليست كلّها عادلة”. إلا أن هذا الجواب “البديهي” سيغدو أصعب عندما يتعلّق الموضوع بالأحكام التاريخية الخاصّة بنا شخصياً. والتاريخ المسيحي- الكنسي كمثله من المجالات عُرضة للشكّ والتساؤل فيما يتعلّق بكلّ تفاصيله، وهذا بالطبع لا يجب أن يجرّنا إلى الموقف المتطرّف الذي يجعلنا ننظر لكل شيء بطريقة “نظرية المؤامرة”، وأنّ هناك متآمرين خبثاء في كل مكان. ورغم وجود هؤلاء بالطبع، فإن عامل الخطأ البشري وتضافر العوامل الأخرى المقصودة وغير المقصودة هو الذي يجب أن يكون نصب أعيننا.
وليس الشكّ نظريةً ندرسها في المدرسة على مذهب فلانٍ أو غيره، بل ناتجاً اختبارياً طبيعياً لمسيرة القراءة والدّراسة والملاحظة عند الشخص الباحث بإخلاص.
هذا الاختبار البحثيّ الجاد هو الذي أجبرني على التساؤل حول صحّة الآراء المتداولة حول عددٍ من شخصيات التاريخ المسيحي. الأسئلة كثير ولا تكاد لا تنتهي في هذا المجال: كيف يحكم التاريخ على شخصٍ بدون أن يسمع منه؟ بدون أن يكون لدى الأشخاص الذين أطلقوا الحُكم أو من تبعهم مراجع موثَّقة تؤكِّد آراءهم؟ كيف يحكم الناس بدون أن يعيدوا هم دراسة ما يريدون الحكم عليه بدون الاعتماد الأعمى والمطلَق على آراء من سبقوهم، وخاصةً عندما تكون هذه الإمكانية موجودة ومتوفِّرة بسهولة إلى حدٍّ ما؟ كيف يمكن لشخصٍ أن يدين شخصاً فقط عن طريق الاعتماد على كتابات خصومه ورأيهم الذي قد يكون مسيئاً لفهمه؟ كيف للباحث الجادّ أن يريح ضميره وهو يشوِّه صورة شخصٍ قد لا تكون بهذه البشاعة، فقط لأنّه أُريد له أن يتعلّم ما تعلّم، أو لأنّه لم يخطر في باله أن يكون الآخرون الثقاة مخطئين؟
كلّ هذه الأسئلة راودتني بفعل دراسة التاريخ، وبفعل الاختبار الشخصي لخاصّية سوء الفهم التي قد أوجهِّها أنا تجاه كتابات شخص، أو بالأكثر التي يوجِّهها غيري تجاه ما أقول وأكتب؟
كم مرّةٍ نسيء فيها فهم معنى وقصد قصيدة مكتوبة نثراً أو شعراً؟ كم مرّة نخترع رموزاً لمكتوبٍ يقصده كاتبه حرفيّاً، ونفهم حرفيّاً ما يقصده كاتبه رمزيّاً؟ كم مرّة لم نفهم أبداً ما يؤمن به كاتب مقالة لأن لدينا فكرة مسبقة عنه؟
فالنتينوس الإسكندري هو معلٍّم مسيحي عاش في القرن الثاني الميلادي، يُقال أنّه ترشّح لمنصب أسقف روما وخسر بفارق أصواتٍ قليلة، مما دفعه إلى الانسحاب إلى قبرص والبدء بنشر تعاليمه، التي أسّست فيما بعد ما يُسمّى بالغنوصية الفالنتينية. إلا أنّ كل تفاصيل حياته وتعاليمه تؤخَذ بشكلٍ رئيسي من كتابات خصومه، مثل إيريناوس أسقف ليون، وإبيفانوس، والعلّامة ترتليان، علماً أنّ على هذا الأخير كثيرٌ من الأسئلة. الأثر الوحيد الذي قد يكون باقياً من آثار فالنتينوس هو “إنجيل الحق” الذي لا يكفي طبعاً لإعطاء أيّ صورةٍ متكاملة عن فالنتينوس نفسه (في حال التأكّد من أنه الكاتب الحقيقي) وعن إيمانه وقناعاته، وخصوصاً وأنّ بعض الأوساط العلمية تعرِّف هذا المعلِّم بالشاعر. وهذا يعني أنّ كثيراً مما قد نظنّه من قناعاته قد يكون صوراً شعرية لأشياء مختلفة تماماً عمّا نظنّه موجوداً في قناعاته. وهنا على الهامش أقول بأنّ كلّ من كتب شعراً- ولو بسيطاً- يقدِّر تماماً صحة ودقّة القول بأنّ “المعنى في قلب الشاعر”، ويشهد بأمّ العين الخداع الكبير الذي يقع فيه معظم سامعيه وقارئيه.
هذا ويجب الإشارة أيضاً إلى أنّه من شبه المستحيل حالياً معرفة الفرق بين تعليم فالنتينوس نفسه وتعاليم أتباعه الذين وطّدوا فيما بعد أسس “المدرسة الفالنتينية”. وهنا أيضاً يبرز التساؤل عن عدد المرّات التي أُدين فيها شخص بسبب القناعات التي طوّرها أتباعه لاحقاً. وكم مرّةٍ حوكم شخصٌ بسبب مكيدةٍ سياسية كان دافعها الخوف من تأثيره الكبير على الناس. وهذه الحالة قد تصحّ على فالنتينوس الذي كان بشهادة خصومه واعظاً مفوَّهاً وخطيباً ساحراً، كما صحّت فيما بعد على نسطوريوس بطريرك القسطنطينية في القرن الخامس الميلادي، في الفترة التي أصبح فيها للأباطرة شأن في الكنيسة، بعكس القرن الثاني الذي لم يمكن استخدام النفوذ السياسي فيه بسبب الاضطهاد الموجَّه ضد المسيحية.
تفاجأت حين درست تاريخ نسطوريوس وقرأتُ بعضاً من الرسائل المتبادلة بينه وبين كيرلّس الأول بطريرك الاسكندرية، بأنّ كلّ ما نسمعه عن هذا الرّجل مضلّل وغير صحيح، كما نّ معظم ما يُنسَب إليه، من عدم اعتباره لكمال ألوهية يسوع المسيح أو إنسانيته، عارٍ عن الصحّة تماماً. ومن يدرس الأحداث المؤدَّية إلى مجمع أفسس عام 431م وما حصل خلاله وما نتج عنه، يرى بوضوح انّ نسطوريوس كان ضحيّة مكيدةٍ سياسية قذرة، شارك فيها العديد من الأطراف، والذين كان على رأسهم كيرلس الأول وميمنون أسقف أفسس وبولتشيريا أخت الإمبراطور التي كانت تكره يوحنا الذهبي الفم وكل تلاميذه الأنطاكيين بمن فيهم نسطوريوس. كما يُرى بوضوح اللعبة التي حصلت في المجمع والتي جعلت كيرلس يبدأه بدون وصول الوفود الداعمة لنسطور وعلى رأسها وفد يوحنا الأنطاكي، ليحكم عليه بعد ذلك في مجمعٍ ناقص النِّصاب. وفيما بعد أُعيد عقد الجلسات وحُكِم على كيرلس ونسطوريوس بالنفي، إلا أنّ الأول تمكّن عبر علاقاته الواسعة من إبطال الحكم بحقّه. بالمختصر، فإنّ النتيجة التي تعترف بها اليوم كثير من الأوساط المسيحية والكنسية (ما عدا بعض الكنائس التي لديها عداء تاريخي مع النسطورية) هي انّ نسطوريوس، وإن كان قد أخطأ، فإنّه بالتاكيد لم يكن “هرطوقياً مبتدعاً”. هذا مع العلم بأنّ أتباع نسطوريوس اللاحقين متعدّدو المذاهب بشكلٍ كبيرٍ جداً، ومعظم الاتهامات التقليدية له هي في الحقيقة مأخوذة من تعاليم بعض تلاميذه اللاحقين.ومن سخرية التاريخ أنّ مجمع خلقيدونية عام 451م قد أقرّ عقيدةً هي أقرب إلى رأي نسطوريوس، منها إلى رأي كيرلّس، ومع ذلك فقد استمرّت النظرة السلبية للأوّل، والإعلائية للثاني.
هذا كان من ناحية المبدأ الأخلاقي لإدانة الأشخاص، ولكن ماذا عن المبدأ العقائدي؟ ألا يجب مراجعة دراسة بعض الأمور التي نقرّ بخطئها؟ هذا لا يعني أننا نودّ إعادة دراستها بنيّة مسبقة لإقرار صحتها، بل لإعادة فهم الدافع لها، وعدم تصويرها بمظهر الشرّ المقصود الخبيث عندما يكون الخطأ- إن وُجِد- ناتجاً عن نقاشٍ عقائدي طويل ومعقَّد، كما نرى في النقاش النسطوري- الكيرلسي، والنقاشات المتعدِّدة بشان الخلاص والتي استمرّت قروناً. ففي النهاية، فإنّ معظم ما نعتقد به، على مستوى الشّروحات التفصيلية، ناتج عن آراء أشخاص معيَّنين، وليس عن نصوصٍ واضحة وجازمة في الكتب المقدَّسة. وسنتفاجأ أحياناً بأنّ “عامل الاعتياد وغياب البديل” هما عاملان رئيسيان في الاقتناع بنظريّةٍ قد نتبيّن هشاشتها في حال عرض النظريات الأخرى بالتفصيل الكامل.
كما أننا قد نعيد دراسة الكثير من الأمور وننتهي لنتيجةٍ مفادها أنه لا يمكن الحكم على صحّتها او خطئها، بسبب عدم توفّر المراجع الكافية، وهذا باعتقادي ينطبق على معظم ما يُنسَب إلى فالنتينوس الاسكندري، الذي وإن كان مخطئاً، وحتى وإن كان هرطوقياً مبتدعاً، فإنّ هذا لا ينفي امتلاكه لكثيرٍ من الحقيقة التي ضاعت، أو أُغفِلت، من ضمن ما ضاع وما قد يكون مغفَلاً أو مهمَلاً مما كتبه وعلّم به، نتيجة غياب المفقود أو الأفكار المسبَقة عن الموجود.
النتيجة الواضحة والتي يجب أخذها بعين الاعتبار هي أنّ مَن لا يدرس التاريخ لا يمكن له أن يصل إلى عمق الحقائق، إن كان مقدَّراً له أن يصل إليها يوماً ما.