من أصعب الأمور أن يجلس المرء ليكتب عن بلاده بشكل حيادي وهو الذي يجاهد ليرى الصورة بعين المراقب والمحلِّل، وليس بعين المتعاطف والدّامع والمشوَّش والخائف على من يحبّ وعلى ما يحبّ، على أناسٍ هم أهله وأصدقاؤه، وعلى شوارع لطالما أحبّها وتأمّلها وصرف بها الأيّام الجميلة، أو غضب منها كغضب الصديق من صديقه.
لا شكّ أنّ ما يحدث في سوريا هو مختلف أنواع الظلم والقتل والإرهاب والعدوان من قِبَل كثيرٍ من الأفراد والجماعات ضدّ الكثير من أمثالهم أيضاً؛ ولهذا كلّه تشابكاتٍ سياسية واقتصادية وثقافية ودينية متشعّبة نتركها لمتابعيها وللمختصّين بها، فما يهمّنا الآن هو الحديث عن الجذور الروحية والأخلاقية لما يحصل؛ فما يجري ليس مجرّد مؤامرة من انظمة المال العالمية على هذه البلاد، وإن كان هذا صحيحاً وبادياً لكل من فيه بصر وبصيرة؛ وليس مجرّد بضعة مسلّحين يعيثون فساداً وقتلاً، كما أنّه ليس مجرّد نظامٍ سياسي فاسد. كلّ هذه عوامل موجودة وصحيحة، إلا أنّ أصل المشكلة هو فساد الأخلاق في المجتمع نفسه.
لا يمكن لأيّ نظامٍ سياسي فاسد أن يحكم شعباً صالحاً لعقودٍ طويلة، وكل الأحاديث عن الشعب المعذَّب تحت نير آلة الفساد السُّلطوية هي نظرات جزئية وسطحية، وبروباغندا تلبس ثياباً يوتوبية تافهة؛ فلو أنّ الشعب مسلَّحٌ بثقافة أخلاقية قويمة لمات النظام منذ أشهره الأولى بفعل انعدام التفاعل بينه وبين الشعب الذي لم يسِر بالفساد وفي الفساد معه؛ ولكن “كما تكونون يُوَلَى عليكم” كما يقول الحديث الإسلامي المأثور.
يمكننا أن نبحث في كتبٍ تكاد لا تنتهي عن نواحي وتفاصيل فساد المجتمع الموجود في أرض سوريا، ولكن كما هي قاعدتي الدائمة فيمكننا البحث في هذا الموضوع بطريقتين:
– الطريقة الأولى تكون عن طريق الإثبات بالأرقام والإحصائيات المأخوذة عبر عدة سنوات، وعبر الدراسات السوسيولوجية (المتعلّقة بعلم الاجتماع) المفصّلة لكل نواحي التعليم والتربية والاقتصاد والإدارة وما إلى ذلك.
– والطريقة الثانية وهي فحص النتيجة النهائية التي نراها بأمّ العين؛ فما وصل إليه المجتمع من حالة تفكّك اجتماعي ومذهبي وأخلاقي دليلٌ على القاعدة الأخلاقية المهلهلة أصلاً، والمبادئ الفاسدة التي تربّت عليها شرائح واسعة من المجتمع بفعل النافذين في المجتمع من قيادات ورجال دين، والتي نشرتها أيضاً السّلطات المسؤولة عن التربية والتعليم والإدارة وغيرها. ولا يوجد عاقل يصدّق بانّ استخدام النظام للسلاح فقط هو من فعل فعله بالمجتمع. فقد نفهم دوافع بعض الشبّان لحمل السلاح في ظروف معيّنة، ولكن من غير المفهوم تحوّل شرائح واسعة من المجتمع لبيئات حاضنة للتفجير والإرهاب والاغتيالات والتعامل مع الإرهاب المنظّم والقتل على الهويّة واستهداف الأبرياء والخطف الممنهج والمنظّم والتخريب الممنهج للمرافق الحيوية.
لدينا إذاً الكثير من الأدلّة على انحلال المجتمع السوري أخلاقياً وهذا ناتج بالطبع عن ظلمة روحية شديدة يقبع فيها الكم الأكبر من الأفراد والجماعات؛ وما يحصل اليوم إذاً ما هو إلا النتيجة الطبيعية لعقود من الفساد الأخلاقي وانعدام مراجعة الذات عند شرائح المجتمع وأصحاب الأديان قبل النظام والسُّلطة، اللذين هما ليسا إلّا تجلٍّ لفساد المجتمع وغياب القواعد الأخلاقية. أمّا اتهام حفنة من الأشخاص بالإفساد الكامل لمجتمع كامل فهذا كلام سياسي خبيث أو ربما بريء النيّة ولكن ضيّق الأفق وسطحي، ولا يمكن تبريره حتى في الكتب المقدّسة، وخاصّة في الكتاب المقدّس؛ ففي مئات المواضع التي نقرا فيها الرسائل الموجَّهة لإسرائيل وآشور وبابل وغيرها من امم العالم القديم، لا نجد مكاناً واحداً يتّهم ملوك الأمم بإفساد شعوبهم، بل دائماً ما كانت ياتي التوبيخ والقضاء على الشعب الفاسد وعلى الملك، وفي معظم الأوقات كان الشعب هو الموبَّخ على خطاياه ومفاسده، فلا يستطيع ملكٌ مهما بلغ من الجبروت إجبار شعبٍ بأكمله على العبادة الإباحية وتقديم الأطفال كقرابين للآلهة، كما لا يمكن لفردٍ أو سلطة أن تجبر المواطن أن يستغلّ أخيه ويسرقه ويأكل أموال الأرامل واليتامى، وغير ذلك من الموبقات.
وعلى هذا فالحلّ في هذه البلاد لن تكون بتسويات سياسية، فالدّاء أعمق وقد نخر المجتمع نخراً، ورحيل النظام او بقائه ليس بيت القصيد. البعض قد يستغرب هذا الكلام، ولكن من الطبيعي أن تكون قلّة من تقتنع بهذا، ونحن اليوم فريسة لأطراف سياسية يقودها مجموعة من الحمقى والسُّخَفاء والديماغوجيين والسطحيّين غير المسلَّحين بفِكر اخلاقي وروحي عميق ومتأمّل.
الحلّ في هذه البلاد لن يأتي سريعاً، فما يحدث الآن هو عملية دفع الفاتورة لما ارتكبناه طوال عقود، حتى من قبل وجود النظام الحالي الذي تُنسَب له كل الموبقات؛ فتاريخ الانقلابات العسكرية والغدر والمكتب الثاني ليس من صنيعة النظام الحالي! هو تاريخ طويل من الانحلال الأخلاقي والطَّمَع السُّلطوي والفساد والأنانية في مجتمعٍ نادراً ما أنتج، واستبقى، قادةً سياسيين واجتماعيين على مستوىً أخلاقيّ عالٍ. ما يحصل اليوم، من منظور روحي وتاريخي، هو بداية تطهير معنوي واخلاقي وروحي لمن يفهم الرّسالة مما يحصل جيّداً؛ فانحاء العالم كلّها، وبلادنا الشرق أوسطية خصوصاً، مقبلة على استقبال نتائج ما ارتكبت عبر السّنين الطويلة.
كثيرٌ من المدن والقرى تُدمَّر في سوريا بشكل لم يكن أشد المتشائمين يتصوّر حصوله قبل عامٍ ونصف من الآن، وكثيرٌ منها سيُدمَّر أيضاً بفعل من لم يتعلّموا الدّرس حتى الآن من أفراد الشعب وجماعاته قبل النظام. ولكننا نرجو أنّ ما يحصل وسيحصل هو المخاض لما سيأتي في الدّهر الآتي.