كما هو المتوقَّع لدى أيّ مراقبٍ لأحداث المغرب العربي وثوراته الإسلامية المختلفة الأشكال والأساليب، فقد بدأت على ما يبدو إرهاصات التخلخل في بنية الدولة الجزائرية، وذلك بعد الانتخابات التشريعية التي انتهت بفوز الائتلاف الحاكم وخسارة التحالف الإسلامي بفارق كبير يضمن للنظام الحاكم إحكام سيطرته على البلاد؛ وللوهلة الأولى يظهر أنّ هذا كلّه حدثٌ عاديّ ومتوقَّع الحدوث في أيّ بلدٍ من بلاد العالم، وخاصّةً في العالم العربي الذي ليس من الغريب فيه حدوث تزويرٍ أو تلاعب بالانتخابات والاستفتاءات، إلا أنه لا يجب النظر إلى ما يحدث في الجزائر بهذه الاعتيادية، وخصوصاً بعد اتهامات الإسلاميين للسُّلُطات بتزوير الانتخابات على نطاق واسع، مما جعلهم يتعرّضون لصدمة خسارة هذه الانتخابات التي صرّحوا قبل حدوثها بأنّهم متأكّدون من الفوز فيها.
هذه الاتهامات الإسلامية للنظام الجزائري لا يمكن إلّا أن تأتي لنا بذكريات ما حصل في انتخابات عام 1991، حين ألغى الجيش الجزائري الانتخابات التشريعية، ونفّذ ما يشبه الانقلاب على الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، مما أدّى إلى حدوث الحرب الأهلية الجزائرية التي استمرّت عشر سنوات (1992-2002)، والتي حصلت فيها الكثير من المجازر البشعة التي قامت بها بعض الجماعات الإسلامية ضد المدنيين والقرويين الجزائريين، وكانت نتيجتها النهائية حوالي 200 الف قتيل.
إنّ احتمالات حدوث انتفاضة إسلامية في الجزائر كبيرة جداً، وخصوصاً بوجود الحجّة الجاهزة، وهي ما يُسمّى “الربيع العربيّ”؛ فقد حدثت التغييرات في كلّ الدول المحيطة بالجزائر، وهي مصر وليبيا وتونس والمغرب، ولا شكّ بأنّ احلام الإسلاميين الجزائريين تعيش الآن فترتها الذهبية، بعد انتصار نظرائهم في انتخابات تونس ومصر والمغرب، وأيضاً مع وجود بيئةٍ عقائدية- تحتضن خزّاناتٍ من “المجاهدين”- قادت حرباً مسلّحة لمدة عشر سنوات وحرباً دعوية أخرى لمدة عقود قبل الحرب الأهلية انتهت بفوزهم في انتخابات 1991؛ وهذا بدون أن ننسى عشرات آلاف المسلّحين الليبيين الجاهزين لتقديم العون بالسِّلاح والرّجال لكل من يطلب مساعدتهم، ولعلّنا نرى مثالاً صريحاً في تدخّلهم العميق في دعم الجماعات المسلَّحة في سوريا.
هذا التصوّر ليس مجرَّد تخيّلٍ فحسب، بل هو يستند إلى التاريخ والإيديولوجيا السائدة في تلك المنطقة، وقد هدّد رئيس “النسخة الجزائرية” من حزب العدالة والتنمية التركيّ العثمانيّ، عبد الله جاب الله، باستخدام “الخيار التونسي” من أجل إحداث التغيير في الجزائر، حيث صرّح بأنّ “السلطة أغلقت باب الأمل في التغيير عن طريق الصندوق، ولا يبقى للمؤمن بالتغيير إلا الخيار التونسي، طال الزمن أو قصر”. وهكذا يبدو أنّ هذا وامثاله يعدّون العدّة لمنازلةٍ طويلة الأمد؛ وهذا ما يجعلنا نشكّ بأنّ مَن يتحدّث الآن عن الخيار التونسي قد يستبدله لاحقاً بالخيار الليبي، أو ربّما بالخيار الجزائري القديم نفسه !
وقدّ صرّح جاب الله أيضاً، في تهديد مبطّن للجزائريين المخالفين له، بالقول:
“نحن لا نعترف بهذه النتائج، لأنها تشكل عدوانا على إرادة الأمّة، وتؤسِّس لحالة من انعدام الأمن والاستقرار”.
لن نسأل عن من اختار هذا الإسلاميّ معبِّراً عن إرادة الأمّة، فقد اعتدنا على تصريحات الإسلاميين بما فيها من مزاعم بالحديث باسم الله والشعب، ولكننا سنسأل:
“في أيّ بلدٍ في العالم نجد التهديد بانعدام الأمن والاستقرار نتيجة لخسارة الانتخابات سوى في البلدان التي تحتوي مثل هؤلاء الإسلاميين؟!!”
كما توقّعتُ سابقاً بشأن فوز الإسلاميين في تورات تونس وليبيا، أتوقّع اليوم بأنّ الإسلاميين في الجزائر لن يوفِّروا فرصةً لإحداث القلقلة في الجزائر عاجلاً أم آجلاً، على حدّ اعتبار الإسلامي السابق الذِّكر؛ فالفرصة اليوم لا مثيل لها من أجل الانقضاض على آخر بلدان الشمال الإفريقي الباقية بعيداً عن يد الإسلاميين، فحجج الانتخابات “المزوَّرة”، وضرورة التغيير الديمقراطي بما يتوافق مع “الربيع العربي”، بالإضافة لبعض المساعدة من إسلاميي تونس وليبيا والمغرب “العدوّة”، وربّما الناتو “الصديق” وأوربا “الإنسانية، كفيلة بإنزال مئات الآلاف إلى الشوارع، أو حتى حمل بعضهم للسلاح في استعادةٍ للسيناريو القديم.
كما ذكرنا سابقاً في العديد من المقالات والدراسات عن منطقة المغرب العربي، فإنّ هذه المنطقة لها دور بارز في النبوءات المختصّة بالحروب القادمة في أرض إسرائيل/ فلسطين، وهي مذكورة بالتحديد في الفصل الثامن والثلاثين من كتاب حزقيال النبيّ، إلى جانب شعوبٍ عديدة، بات معظمها اليوم في قبضة الإسلاميين المتشددين أو تحتوي خزّانات بشرية كبيرة منهم (تركيا، إيران، السودان، تونس، ليبيا،…). إنّ هذه المنطقة من إفريقيا، والمسمّاة “فوط”، ستكتمل بدخول الجزائر في قبضة الإسلاميين، لِما يشكِّله هذا البلد من حاضنة عقائدية للجهاديين، ولِما تحويه من إمكانيات بشرية ونفطية هائلة، يمكن أن تشكِّل داعماً اقتصادياً وعسكرياً لا غِنى عنه لهذه المنطقة التي تسير في طريقها إلى الصبغة الأيديولوجية الواحدة، الكفيلة بدورها في تخفيف أو إزالة أسباب العداء السابق الموجودة بين بلدانها، وتوحيدها في كتلة، أو ضمن كتلة، إسلامية متشدِّدة أكبر قد لا تكون بعيدة المنال؛ ولنا في الاتحاد الكونفيدرالي الخليجي مثال.