هكذا يحوِّل الإعلام العربي المقدَّسات إلى أساطير


بقلم فادي أبو ديب

منظر من جبل الزيتون

أوردت قناة العربية السعودية خبراً عن الخلافات القائمة حالياً حول مقبرة يهودية موجودة في جبل الزيتون قرب مدينة أورشليم القدس (على هذا الرابط)، وصرّح الخبر وعنوانه بأنّ هذه الأرض تابعة لمصلحة الأوقاف الفلسطينية المقدسية، وأنّ اليهود لديهم بضعة أساطير ومعتقدات دينية حول هذا المكان.

ورغم أنّ موضوع ملكيّات الأراضي هو موضوع له مختصّيه، ورغم أنّ المسألة الواردة في الخبر هي مسألة قانونية في حدّ ذاتها، وليس من اللائق الدّخول في تفاصيلها، إلّا أنّه من المفيد ذِكر ما لم يذكره كاتب الخبرالأصلي، مثله في ذلك مثل كل كتّاب الأخبار العربية التي لها علاقة بموضوع الآثار- إن وُجِدت مثل هذه الأخبار- أو المناطق الموجودة في تلك المنطقة الممتدة بين نهر الأردن والبحر المتوسط، وبين الجليل شمالاً وحتى النَّقَب جنوباً.

في الواقع فإنّ جبل الزيتون منطقة لها وزنها الكبير في المعتقدات المسيحية واليهودية على حدٍّ سواء، وليس مجرّد مقدَّسٍ هامشي ورد في الكتابات والتقاليد الشفوية المتأخِّرة؛ فقد ورد اسم هذا المكان، كما هو حرفياً، 14 مرّة في الكتاب المقدَّس، منها مرّتان في العهد القديم، تشير إحداهما إلى مجيء المسيّا المخلِّص على هذا الجبل بالذات ليبدأ حكمه الأرضي؛ كما ورد بأسماء أخرى عدّة مرّات أخرى في هذا القسم من الكتاب المقدَّس؛  وقد كان لهذا المكان أهميّة كبيرة عند يسوع المسيح وتلاميذه فكان مكان التأمّل والخلوة الرّوحية، كما أعلن  يسوع  من هذا المكان نبوءاته عن دمار أورشليم والضيقة العظيمة التي ستحلّ على الأرض مباشرةً قبل مجيئه؛ وكان جبل الزيتون واحداً من آخر الأمكنة التي زارها واختلى فيها قبل تسليمه لرؤساء اليهود، ويورد الفصل الأول من سِفر اعمال الرسل أنّ يسوع، وبعد قيامته، صعد إلى السّماء من هذا الجبل، في إشارة- كما يبدو- إلى ما ورد في زكريا 14 عن عودته إلى هذا الجبل نفسه، وسواء آمن يهود اليوم بمسيحانية يسوع الناصري أم لم يؤمنوا (وبعضهم يفعل على أيّة حال)، فإنّ هذا المكان له دلالة كبيرة، وما حوله ليس مجرّد اعتقادات هامشية طقسية.

بدون إعطاء القضيّة حجماً كبيراً، إلّا أنه يمكننا رؤية كميّة المعلومات التي تخفيها وسائل الإعلام حول مقدَّسات الآخرين، وهذه هي القضية التي تهمّني من كتابة هذا المقال التعريفي؛ فرغم العديد من المكتشفات الأثرية، إلّا ان وسائل الإعلام العربية، ومن يقف خلفها من مسؤولين وعقليّات تحكم المجتمع والدولة، تلتزم الصمت المطبق حول هذا الموضوع. وإن كانت وسائل الإعلام هذه تصمت عن شرح معتقد ديني مشروحٍ ومعروف، فما بالنا بالذي تفعله هذه الوسائل والمسؤولون عنها من حكومات ونُخَب في تحويل مقدَّسات الآخرين لمجرَّد خرافات وأساطير، وكأنّ الناس لا تفكِّر ولا تقرأ ولا تبحث (وهذا صحيح إلى حدّ بعيد في بلدان العالم العربي الأقّل انفتاحاً على الثقافات والأديان الأخرى) ؟!

ومن يتجاهل حتى وجود، وليس فقط أصالة، صغائر المقدَّسات– إن صحّ التعبير- عند الأديان الأخرى فكيف سيعترف بكبراها وأهمّها؟! والسؤال الأهم: أليس تحويل المنطقة إلى وقفٍ دينيٍّ إسلاميّ هو دليل ضمنيّ على القيمة الدينية والتاريخية القديمة لهذه المنطقة، والتي قد تكون السبب وراء إعلان وقفيّتها، مما ينفي كون الموضوع مجرَّد أسطورة؟ خاصّةً وأنّ هذا الموضوع تكرَّر مع عشرات المناطق الأخرى مثل قبر ابراهيم والنبي صموئيل ويشوع بن نون وداود وغيرهم.

طبعاً هنا لا ينبغي نسيان التنويه إلى أنّه لا ينبغي للقارئ العربي الحصيف أن ينغرّ  بشهرة هذه القناة أو غيرها من وسائل الإعلام العربية الضخمة فيصدِّق كل ما يرد في تحليلاتها وبرامجها الوثائقية، ففي العالم العربي وحده، يمكن للمؤسَّسات الضخمة والشهيرة والعالمية أن توظِّف المئات من ضحلي التفكير والثقافة والاطّلاع على الآخر مهما كان، وهناك عشرات الأمثلة لمن يريد البحث.

هذه القناة نفسها (العربية) أوردت في إحدى المرّات تحقيقاً صحفياً تصف فيه الشيخ الوهابي السوري عدنان العرعور بأنّه “مهاتما سوريا”، في إشارةٍ للمفكِّر والزعيم الروحي والوطني، وداعية المقاومة السِّلمية التامة، الهندي العظيم المهاتما غاندي. (انظر الرابط). وما علينا سوى أن نتفكّر في سؤالٍ آخر وهو: كيف لقناة تضم في جنباتها من تصل ضحالة تفكيره إلى جهل مكانة غاندي وتشبيه أحد الرّقاة الشرعيين به، وتقبل بأن تنشر مثل هذه المأساة الصحفية والفِكرية، كيف لها أن تمتلك ذرّة من المصداقية حين يتعلّق الموضوع بمقدَّسات وتاريخ أكثر أماكن العالم حساسيةً؟!

موضوع مرتبط:

العودة الأخيرة إلى جبل الزيتون

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.