“نحن المسؤولون عن عملية الاصطفاء الإلهية لكوكب الأرض. هو يختار، نحن ندمّر. نحن سائقو الفرس الشاحب، الموت”
باربرا ماركس هَبارد
(إحدى المبشّرات بالعالم الجديد البعيد عن التطرّف الدينيّ!)
” ثم رأيت وحشا آخر طالعاً من الأرض وكان له قرنان شبه خروف وكان يتكلم كتنين، ويعمل بكل سلطان الوحش الأول أمامه، ويجعل الأرض والساكنين فيها يسجدون للوحش الأول الذي شُفي جرحه المميت…ويجعل الجميع الصغار والكبار والأغنياء والفقراء والأحرار والعبيد تُصنع لهم سمة على يدهم اليمنى أو على جبهتهم، وأن لا يقدر أحد أن يشتري أو يبيع ألا من له السمة أو اسم الوحش أو عدد اسمه.”
يوحنّا اللاهوتي
ما سيرد فيما يلي سيكون فيه قدرٌ ليس بقليل من التخيّل، ولكن مع هذا فإنّه ينطلق من صُلب الواقع والأحداث الحاصلة حالياً، والتي هاجمت وعي الجميع بطريقة مفاجئة لم تخطر على بال أكثرالناس تشاؤماً وسوداويةً؛ فدخول منطقتنا عامةً، وسوريا على وجه التحديد، في هذه الدوّامة المرعبة من التعصّب والتشدّد والتطرّف الواضح على كل المستويات، كان له أكبر الأثر في نفوس الناس، وخاصّة ممن كانوا مفرطين سابقاً في أمانيهم الوردية وتوقّعاتهم المبالَغ به من جهة طبيعة الناس والمجتمع الذي يحيون فيه، وتعلّموا عنه كثيراً من الكلام الذي صدّقوه.
البارز في هذه الأيام عند معظم الناس هو السؤال الاستهجاني أو المتخوِّف الذي يتّخذ عدّة صيغ: “أين الله مما يحدث؟”، “لماذا نعاني بسبب الأديان؟”، “لماذا يسمح الله بكلّ هذا؟”. كثيرون تزلزل إيمانهم بوجود إله، أو على الأقل بعدالة هذا الإله، أو برحمته، أو بمدى سيطرته الفعليّة على مجريات الأحداث. ولكنّي سأجرؤ على القول بأنّ الوحيدين الذين لم يتزعزع إيمانهم هم الذين كانوا يتوقّعون ما سيحصل!
نعم، فالذي يسبب الضياع أكثر من عدم الإيمان بوجود إله هو الإيمان بصورة خاطئة أساساً عن هذا الإله؛ هو عدم التفكير بأنّ هذا الإله قد رسم قوانين خفيّة لهذا العالم والتي تتمثّل في جملة بسيطة وهي “الذي يزرعه المجتمع فإيّاه يحصد”، أو ربما يحصد أعظم مما زرع. فكما أنّ حبة الخردل الصغيرة تنمو لتصبح أكبر الأشجار، هكذا أيضاً بضعة حبّات من الزؤان السيّئ تخرّب محصولاً بأكمله من القمح.
في الواقع، يبدو أننا حقّاً في بدايات حروب وصراعات مذهبية ودينية طويلة لا تُخفى أسبابها الاقتصادية والسياسية، سواء كان الأمر في هذا البلد أو ذاك. قد تهدأ هنا وتشتعل هناك، ولكن يبدو من الواضح أنّ هذه هي الحالة التي ستميّز جيلنا هذا وربّما ما يليه على الأقل. ليس موضوعنا تحليل أسباب هذه الصراعات وأيّ من العوامل له الدور الأكبر فيها، فما يهمّنا حقّاً هو الحالة الموجودة والصبغة الدينية التي لا يمكن لعاقل إنكارها. نعم، نحن لسنا في نهاية الصراع بل في بداياته فقط. لا أريد أن أكون متشائماً، ولكن ربّما تشاؤمي هذا هو ما جعلني بعيداً عن الصدمة ممّا يحصل الآن، بالرغم من كل آلامي ومخاوفي بسبب كثير وعلى كثير من التفاصيل اليومية!
من ناحيتي، وبدون مواربة، فإنّ الكتاب المقدَّس، كان دليلي الوحيد في توقّعي للأمور، وذلك ليس عبر جملة من هنا وعبارة من هناك، بل عبر منظومة فلسفة تاريخية واضحة ومتسلسلة عبر كل فصوله الستّة والستّين. فالأسفار واحداً تلو الآخر يبيّن أنّ الأمور ستتجه من سيّئٍ إلى أسوأ، وما هو قادم أكثر ظلاماً مما مضى من جهة الحروب والأوضاع الاقتصادية وشحّ الموارد الطبيعية والجشع والكراهية والتصادمات الثقافية. ولا شكّ أيضاً في أنّ الأديان، كل الأديان، ستلعب دوراً يزيد هنا أو ينقص هناك في هذه الصراعات. وأنا هنا أقصد بالتحديد المنظومات الدينية الجمعيّة التي تقود الحشود، ولا أتعرّض لما يؤمن به الأفراد مهما كان.
إنّ هذا الدور الذي ستلعبه الأديان، والذي نرى اليوم الكثير منه، وسنرى مستقبلاً ما هو أسوأ، ربما على مستوى الصراع بين الأمم، سيكون له الدور الكبير في إحداث شرخٍ كبير بين فئتين سينضمَ تلقائياً وفكرياً لهما معظم الناس: فئة شديد التعصّب للمنظومة الدينية الجماهيرية الجمعيّة، وفئة تكره الأديان هذه كرهاً عميقاً سوف يدفعها بطريقة ما إلى إنشاء العديد من المؤسسات والمنظومات المضادّة.
الفئة الأولى متنوّعة الأشكال والألوان، لها قادتها ورجال أديانها المتنوّعون، كما نرى اليوم، والفئة الأخرى فيها أيضاً ذات التنوّع. وأظنّ هنا بأنّ الأمم ذاتها ستنقسم أيضاً بين دولٍ خاضعة للتأثير الديني الشديد كما هو بعضها اليوم، ودول أخرى تناهض هذا التوجّه بكافّة الأشكال، وليس غريباً حينها ن تلجأ إلى إنشاء مرجعياتها الخاصّة، وفق اتفاقياتٍ معيّنة تشبه إلى حدٍّ كبير ما يحصل في حوار أديان اليوم، إلا أنّ هذه الظاهرة ستكون أكثر تنظيماً وفاعليّةً في مواجهة الدول الدينية؛ سيكون هذا التنظيم أكثر فاعليةً لدرجة أنه سيمارس استبداداً يشبه الاستبداد الديني، بحجّة الحماية من التطرّف الديني، أي أنّه سيكون مشابهاً لقوانين مكافحة الإرهاب في بعض دول اليوم. وليس صعباً أن نتخيّل أنّ هذا “المنقذ” سيكون أكثر استبداداً وديكتاتوريةً؛ فبحجّة حماية حرية الفرد والمجتمع من التطرّف، سيلجأ هذا التنظيم، الذي يشبه القاتون الدولي مثلاً، إلى المحاسبة على الكتابة والأفكار والمواعظ والتجمّعات البشرية، لأنّه يزعم بأنّه يخاف من التطرّف الديني. وأظن أنه من السهل تخيّل منظومة شبيهة بديكتاتورية المنظومة الاشتراكية سابقاً تجاه الدين، ولكن على مستوى أكبر وأوسع. وعلى أيّة حال، فإنّ قوانين الكثير من الدول الأوربية اليوم فيها الشيء الكثير من هذا، بطريقةٍ لا تتناسب أبداً مع ما يدّعون من حرّيّة، وليس ضد الإسلام والديانات الوافدة فحسب، بل ضدّ المسيحية نفسها!
هكذا إذاً، الحروب والصراعات ذات الدافع الديني، ستلعب دوراً كبيراً في جعل الكثير من المخلصين والمفكِّرين ومنفتحي العقول يصلون إلى درجة القرف من كلّ ما يتّصل بالدّين، وبالتالي فإنّ معظم هؤلاء سيتّجهون إلى طرف النقيض الآخر، وهكذا سيكونون فريسةً سهلة لأيّ ديكتاتوريةٍ تظهر بالتدريج و”من صلب حاجة” الخائفين والمقهورين من الأديان وويلاتها. وبدل من أن يتحرّروا من المنظومات الدينية الجماهيرية فيبحثون عن طريقٍ آخر، سيرضون بتنظيمٍ جمعيّ آخر، ولو أنه سيكون حتماً “أكثر رقيّاً وتحضّراً وتهذيباً” في الظاهر.
ولكن قد يسأل سائلٌ عن ماهية هذه الديكتاتورية. في الحقيقة فإنّ الدّين الجمعيّ الجماهيريّ في النهاية هو وسيلة للتنظيم، وله حتماً نتائج سياسية، والنتائج السياسية تفضي لنتائج اقتصادية وهذه الأخيرة هي بيت القصيد. واليوم نستطيع أن نرى بسهولة فروقاً كبيرة بين اقتصادات الدول الإسلامية والكاثوليكية والأورثوذكسية والبروتستانتية، ومن منها ميّال للاشتراكية ومن هو الميّال للرأسمالية، وهكذا؛ وبنفس الطريقة تماماً يلعب الاقتصاد دوراً في تشكيل الدين التنظيمي الجماهيري وإدخال عناصر جديدة للاهوت أو الفقه الذي يقود المؤسسات الدينية الجماهيرية.
بهذه الطريقة، تكون الديكتاتورية المناهضة للتطرّف الديني (والتي هي في النهاية شكل من أشكال التطرّف الديني المضاد) هي ديكتاتورية قائمة على نظام اقتصادي- أمني، أي هي دولة تحبّ المطيع، الموافق، السالك بحسب حذافير أيديولوجيتها، ونابذة لمن لا يريد أن يتبعها. وهنا نستطيع أن نفهم ما يقوله الفصل الثالث عشر من رؤيا يوحنا اللاهوتي من أنّ غير المختومين بعلامة الوحش “الديكتاتورية” لن يستطيعوا أن يبيعوا أو يشتروا.
هذه الديكتاتورية التي تدّعي مناهضة التطرّف الديني، ستكون هي نفسها متطرّفة لدينها الائتلافي الخاص، على طريقة الأجنحة الكنسية التي كانت متصالحة مع نظامي ستالين وهتلر؛ديانة يرضى عنها القادة، جماهيرية هي الأخرى، تماماً كمثل ديانات الدول المتطرّفة اتي تدّعي أنها تريد أن تحمي مواطنيها منها.
قد يقول قائل، أفهناك أجمل وافضل من ائتلاف دينيّ يؤمِّن السلام والازدهار؟ ولكن هذه الائتلاف سيكون مثل تلك الدول المتطرّفة دينياً، فكلاهما سيحارب الأفراد الباحثين الذين لا يرضون أن يكونوا خاضعين للدين الجماهيريّ وما يتبعه من نظام اقتصادي يصادر الحرّية الفردية والمجتمعية. فهذه الديكتاتورية التي ستدّعي أنّها تحمي الإنسان من خطر المتطرّفين الدينيين ستكون أكثر خبثاً وأكثر قتلاً بحججٍ ومبرِّراتٍ شتّى.
ما نراه اليوم من فوراتٍ دينية جماهيرية تطرّفية، سيكون العامل الأكبر في الخروجات الجماعية من هذه التنظيمات الجمعيّة، ولكن الخطر لا ينتهي هنا، لأنّ هذه الجماعات الخارجة لن ترفض في معظمها الدّخول في عهدة أيّ من سيعدها بالأمان، بعد كل هذه المعاناة من الهمجية والبربرية الناتجة عن الحشود وأديانها. فالبحث البعيد عن التنظيمات الجماعيّة يبقى دوماً مكروهاً من كلّ السُّلُطات مهما ادّعت من حضارة وحرص على الإنسان، وعلى بناء عالمٍ متحدٍ افضل.
تأمّلوا كثيراً في هذه العبارة الأخيرة بكلّ ما فيها من وردية، فالكل يحلم بهذا العالم المتّحد، ولكن قلّة تسأل: ما هي وسيلة هؤلاء المبشّرين بهذا العالم لتحقيقه؟!! فمن يعد بالخلاص قد يكون هو من سيضع السكّين على أعناقنا!