النُّكران السّوري الذي لا يُغتَفَر


بقلم فادي أبو ديب

لا شكّ في أنّ كلمات يسوع عن الخطيئة التي لا تُغتَفَر تبدو شديدة القسوة عند قراءتها للوهلة الأولى، فهل يمكن أن توجد خطيئة أو زلّة غير قابلة للمغفرة؟! ومن يصدِّق أنّ أباً أرضياً رحيماً يمكن ألّا يغفر لابنه مدى الحياة مهما كانت فِعلته؟! وعلى هذا فما بالنا بالآب السماويّ الذي علّمنا يسوع نفسه عن محبّته ورغبته في خلاص كلّ الناس، وأنّ سماواته كلّها تفرح بخاطئٍ واحدٍ يتوب أكثر من فرحها بتسعةٍ وتسعين بارّاً! كيف يستقيم هذا التناقض الظاهريّ في الكلام؟ وهل يمكن أن ينتقم الآب الرّحوم من أيّ إنسانٍ بأن لا يغفر له أبداً؟ كيف يستقيم أنّ ” كل خطية وتجديفٍ يُغفَر للناس.،وأمّا التجديف على الروح فلن يُغفَر للنّاس.” ؟!

في الواقع فإنّ الاستمرار في منهج البحث اللاهوتي النظري قد يصعّب مهمّتنا كثيراً في فهم مقصد القول الآنف الذِّكر، لا بل وقد يوقعنا في أخطاء كثيرة ناتجة عن سوء الفهم، إلا أنّ ملاحظة سِيَر حياة الأفراد والمجتمعات كفيلةٌ بتوضيح المعنى بشكلٍ كامل. ويمكن القول بأنّ الأنظمة السياسية العالمية، والعربية بشكل خاصّ، تقدِّم لنا خدمةً كبيرة في بحثنا هذا!

في البداية يجب توضيح ماهية الخطيئة؛ فهي ليست ممارسة ما؛ هي ليست زلّة في السلوك أو تعدٍّ على ناموس؛ إنّها اعوجاج جوهري في الشخصية والفِكر والتوجّه والهدف النهائي؛ هي، إن شئنا،  مرضٌ موجود في الإنسان بشكل جوهريّ. وهذا المرض، كأيّ مرضٍ في الجسد، وكأيّ ظاهرة معوجّة في المجتمع، يحتاج إلى علاج؛ ولكنّه قبل علاجه يحتاج إلى شيءٍ غاية في الأهمّيّة، وهو الاعتراف بوجوده وعدم نكرانه؛ فبدون الاعتراف بالمرض لا يمكن للطبيب ان يعالج مريضه، وبدون ترك النُّكران جانباً لا يمكن لأيّ نظامٍ مجتمعيّ  أو سياسيّ أن يباشر في إصلاح أيّ انحرافٍ أو اعوجاج، لإزالته أو لتخفيفه.

كما ذكرتُ آنفاً، فإنّ الأنظمة السياسية العالمية، والعربية على وجه الخصوص، تعطيناً أمثلة واضحة على خطورة النُّكران ودوره في استفحال المشاكل والأمراض، لدرجةٍ يعود فيها العلاج مستحيلاً، تماماً كما يستحيل علاج مرض السَّرطان، أو حتى التخفيف من آثاره، في حالة تجاهله أو عدم الكشف المبكِر عنه. وما يحصل في سوريا اليوم يقدّم لنا مثالاً جليّاً عن دور النُّكران  في القضاء على أيّ أملٍ في حلّ المشكلة الواقعة حاليّاً بين النظام والثائرين عليه، وبين شرائح واسعة من المجتمع، بعضها مع بعض؛ فالنظام السياسي الحاكم والقائمين عليه والثائرين ضدّه وقطّاعات واسعة من الشعب ما زالت مصرّة على عدم تسمية الأمور بمسمّياتها الحقيقية. وللأسف فهؤلاء لم يتعلّموا، أو أنّهم لا يريدون أن يتعلّموا، من نتائج عيشهم الطويل في كتلة من الأكاذيب الرّهيبة التي تتحدّث عن الوحدة الوطنية وانعدام الطائفيّة والتفاف الشعب بمجمله حول قيادته، وما إلى ذلك من الأوهام غير الموجودة.

وهكذا فنتيجةً لعدم التعلّم، وقع هؤلاء في خطأٍ آخر يتمثّل في عدم الاعتراف بأنّ الحاصل حاليّاً هو حرب أهلية، أو بوادر لها على الأقلّ. إنّ اللعب على وتر “التعاريف الدوليّة” لماهية الحرب الأهلية هو مضيعة للوقت، فالناس تُقتَل بأعدادِ ضخمة وبشكل عشوائي، وباتت الانقسامات الاجتماعية والجغرافية والقِيَميّة واضحة، وأضحت هناك سياسات انتحارية شمشونية من كافّة الأطراف.

هذا النُّكران الرّهيب الحاصل ناتج عن “عبادة وثنية” تُسمّى “الإيمان بمعصومية الشعب الذي أنتمي إليه”. هذه “العبادة” تقضي على المؤمنين بها إنكار كلّ ما يمكن أن يمسّ بالصورة المتخيَّلة لهذا الكيان الاصطلاحي الوهمي المسمّى “شعب”؛ فبحسب نظرة هؤلاء فإنّ الشعب هو قمّة في الوعي والأخلاق وامتلاك القِيَم السّامية، وكلّ ما يحصل عنه هو نتاج فئة خارجة عنه، حتى لو بلغت هذه الفئة نسبة عالية من هذا الشعب. طبعاً هذه الفئة “الخارجة” متغيّرة النسبة والمحتويات الطائفية والفئوية والاجتماعية بحسب هويّة مرتكب خطيئة النًُّكران. وهكذا نجد بأنّ الأفق يبقى مسدوداً أمام أيّ حلّ، وذلك لسببٍ بسيط وهو نكران وجود المرض. وهنا يمكن أن يصيب البعض الاستغراب بشأن إمكانية استمرار التجاهل لسنوات رغم وضوح الأحداث، إلّا أنّ الجواب الواضح هو أنّ الإنسان هو بلا شكّ أبرع المخلوقات في النُّكران وعدم الاعتراف بمرضه.

القاعدة بسيطة وواضحة، المريض الذي لا يعترف بالمرض لا يمكن علاجه لأنّه ببساطة لا يريد أن يتعالج. وهكذا نفهم أيضاً على المستوى الرّوحي ماهيّة عدم الغفران الإلهي، هو ببساطة عدم تقبّل الإنسان للعلاج لأنّه لا يعترف بوجود المرض، لأنّ الخطيئة هي مرض، والغفران هو علاج، وهو يقدَّم لمن يريده. وهذا واضح في قوليْ يسوع المتضمّنيْن سخريةً مبطّنة : “الأصحّاء لا يحتاجون إلى طبيب بل المرضى”، و “لم أتِ لأدعو ابراراً بل خطاةً إلى التوبة”. وأقول أنّهما تصريحان ساخران لأنّ يسوع نفسه رفض في مناسبة أخرى أن يعترف بصلاح (بمعنى السلامة من المرض) أيّ أحد على الأرض، وذلك عندما أخبر غنّيّاً جاءه بأنّه “ليس أحدٌ صالحاً إلا واحد وهو الله”.

وهكذا فالمعادلة بسيطة، اعترف بالمرض الشخصي أو المجتمعي فيكون هناك فرصة في الشفاء؛ لا تعترف به فسيستفحل ويتفاقم ثم يستعصي ويكون الموت هو النتيجة الأخيرة الحتميّة. الأمر بمجمله يتعلّق بحرّيّة الإرادة.

الأمر إذاً يتعلّق بالكبرياء البشري؛ فهذه الآفة الداخلية، والتي هي أكثر فتكاً من آفة الغرور الواضحة على ملامح بعض الأشخاص، تستوطن مواطن التفكير والمعتقد لدينا جميعاً، فيظنّ صاحبها بأنّ شعبه هو الأسمى، أو أنّ فئته أو طائفته هي الأوعى، أو أنّ ما يصيب الآخرين على المستوى الفردي أو الجماعي لا يمكن أن يصيبه، أو أنّ أمّته هي الأرقى وأنّها موكلة بدورٍ كوني وهي لذلك باقية للأبد؛ وكأنّ الفناء والتبدّل ليسا مصيريْ كلّ الظواهر على هذه الأرض!

الكبرياء يجعل الإنسان يرى نفسه يتهاوى في المفاسد الفِكرية والسلوكية ويبقى مع ذلك يجد الوسائل الكثيرة لنكران الحاصل أو المسؤولية الشخصية. وبحسب فرضية “النُّكران” الفرويدية فإنّ هذه الظاهرة تأخذ ثلاثة أشكال: إمّا نكران كلّيّ، أو إنكار لمدى جدّية الحدث، أو إنكار للمسؤولية الشخصية عن الحاصل رغم خطورته الواضحة. وفي كلّ هذه الأشكال يبقى العلاج مستحيلاً بالتأكيد. وإذا طبّقنا هذه الفرضية على المجتمعات، يمكن أن نلحظ بأنّ المجتمعات العربية تغرق غالباً في الشكل الأول من النُّكران، وهو “النُّكران الكلّيّ”، وهو أخطرها بنظري؛ ففي الأشكال الأخرى تمّ التشخيص وربما لا يوجد رغبة في الانخراط في الحلّ، إلا أنّ الشكل الأوّل يدلّ على غياب كامل لأيّ فاعليةٍ منطقية عند الفرد أو المجتمع، وبالتالي هناك ما يشبه الموت السريري فِكريّاً، والذي يسبق الموت الحقيقي ومن ثم التحلّل والتفكّك الإنساني والذهاب باتّجاه الفوضى والهمجية.

للأسف فإنّي أرى أنّ المجتمع السوري والجهة القائمة عليه كنظامٍ سياسيّ يرتكبان الخطيئة التي لا تُغتَفَر وهي النُّكران، وهذا إن استمرّ سيجعل المجتمع والنظام كالغارقيْن في سباتٍ لن يوقظا منه إلّا في وسط الحرب الأهليّة، هذا إن استفاقا أصلاً.

الإعلان

One comment

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.