يقدِّم لنا التاريخ خلال جريانه الذي يحتوي على كثيرٍ من التماثلات العديد من المفاتيح للإدراك والاستنتاج؛ إلا أنّ الوصول إلى بداية طريق المعرفة يحتاج إلى عنصر الشجاعة للتساؤل عن كثيرٍ مما نعتبره قناعاتنا الثابتة، التي تشكّل جزءاً من شخصيتنا التي نعيش فيها ونقدّم أنفسنا للمجتمع المحيط من خلالها.
القضية الفلسطينية بكل تفاصيلها تشكّل نقطة الارتكاز في إيديولوجية كلّ مواطنٍ عربيّ ذي ميولٍ قومية أو دينية، كما أنّها تلعب، بنسبٍ متفاوتة، الدور الأهمّ في نظرته للعالم ولأممه وأفكاره وأديانه وتاريخه. وقد يستغرب مستغربٌ من تركيزي الحصري على المشاعر القومية والدينية، وابتعادي عن ذِكر الميول الإنسانية في دعم القضية الفلسطينية. ولكني واثقٌ من أنّ شرحي للموضوع كفيلٌ بإزالة الاستغراب، حتى لو لم يُزِل كلّ الأسئلة.
إنّ المشاعر الإنسانية الصرفة لا يمكن أن تقترن بالتطرّف الشديد والتعنّت في حلّ القضايا، فالسعي الجدّي، الإنساني الصِّرف، لحلّ قضيّة عودة اللاجئين الفلسطينيين أو تمرير المساعدات الغذائية والطبّية لهم، لن يكون بالطبع له علاقة بتشكيل كتائب مسلَّحة وبتطوير صواريخ الكاتيوشا وبإرسال الأموال الطائلة للأحزاب والجماعات ذات الأيديولوجيات الدينية، التي تتبنّى مفهوم الصراع والقتال لأسبابٍ دينيّة وقومية؛ فالمشاعر الدينية والقومية هي وحدها التي تجعل كلّ صراعٍ ذا صبغةٍ أبدية، مرتبطٍ بعوامل لا تخضع للعمليات السياسية. وباستخدام المثل الدارج المشهور، فإنّ المشاعر الإنسانية تسعى للحصول على أكبر قدرٍ من “العنب”، في حين تسعى المشاعر الدينية والقومية (التي هي شكل آخر من شكل الدّين) إلى قتال الناطور لأنّ مشكلتها في الحقيقة هي في وجوده!
الإنسانية تسعى لحماية الإنسان اللاجئ أو الجائع أو المشرَّد أو المحروم وتأمين معيشة لائقة له، أما المشاعر الدينية والقومية فتسعى لقتال الآخر. الإنسانية تسعى للإنسان أولاً وللأرض ثانياً بغضّ النظر عن مفهوم هزيمة الطرف الآخر، أمّا المشاعر الدينية والقومية فهمّها الأول هزيمة الطرف الآخر وإشعاره بالذلّ حتى لو لم تحصل على مكسب الأرض فوراً، وطبعاً ليس للإنسان هنا أيّ دور، فالكلّ، بحسب هؤلاء، وقودٌ في “المعركة الكبرى” و”القضية الخالدة”. وكمثالٍ صغير ومعاصر يمكننا أن نتذكّر استعراض سفينة “مرمرة” التركية، وهي جزء من استعراض عضلات بحري تركي تجاهل كل التحذيرات الإسرائيلية المسبَقة، حيث أرسل إردوغان سفينة محمّلة بمئات الناشطين، ومن بينهم العديد من قيادات ونشطاء الأحزاب الإسلامية الأتراك والفلسطينيين والجزائريين وغيرهم.
لو كان إردوغان ومن معه من النشطاء الدينيين يريدون إيصال المساعدات الإنسانية، فهناك وسائل أخرى أكثر سهولةً تتبعها جميع دول العالم بما فيها بعض الدول العربية، إلا أنّهم أرادوا تسجيل مواقف سياسية وإثارة الحميّة الدينية عند الأتراك والعرب، والأهم من هذا محاولة إذلال خصومهم أو تعليمهم درساً؛ وفي كل الأحوال كان الفلسطينيون مادّة للاستهلاك الإعلامي والسياسي، وباتت قضيّتهم الإنسانية، التي ماتت منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، مجرّد أداةٍ لتحقيق المكاسب السياسية والدينية للعديد من الأنظمة والأحزاب والإيديولوجيات في العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه.
وعلى نفس الشاكلة، ولكن على مجالٍ أوسع تاريخياً وجغرافياً، يمكننا النَّظَر إلى الأحداث الحاصلة في العالم العربي، منذ نشوء “القضية الفلسطينية” وحتى ما يُسمّى “الربيع العربي”. فالمشكلة الفلسطينية، وما يتفرّع عنها من ظواهر، ليست سوى نموذج فجّ وواضح لفشل العقل الجمعيّ العربي في الوصول إلى حالة من الوعي الذي يكفل له إيصال نفسه إلى العالم. والقضية تتعلّق بأسباب تاريخية موغلة في القدم، وليست مجرّد مجموعة من الأخطاء هنا وهناك.
كلام في التاريخ:
منذ بداية انطلاق العرب للتوسّع خارج جزيرة العرب، لم يكن هناك من منتجٍ حضاريّ فريد يمكنهم تقديمه للعالم، فالشرائع الدينية (اليهودية والشكل الكنسي من المسيحية) والثقافتان الفارسية والبيزنطية، والجدليات الفكرية والفلسفية، كلها كانت قد بلغت أوجها في القرنين السابع والثامن الميلاديين، وبالتالي فإنّ العرب بما فيهم من نقص كبير في معظم هذه المجالات، ونتيجةً لاستغرابهم الشديد لظواهر ذلك العالم الذي لم يعتادوا عليه قبلاً، لجؤوا إلى استغلال الصراعات الدينية والسياسية في البلدان التي غزوها في الشام ومصر، وتحالفوا مع الأطراف المستضعَفة ضدّ الأطراف الأقوى، فتمكّنوا من هزيمة الفرس والروم، فلم يبقَ أمامهم سوى أولئك الضعفاء من القبائل العربية والآرامية وغيرها. وقد استغلّ العرب هؤلاء، وخاصّةً السريان اليعاقبة والنساطرة، في نقل وتعريب الكثير من تراث اليونان والمصريين إليهم، وفي تعليم العرب الفنون والعمارة والخط وغيرها من الضروريات للخروج من الحالة الصحراوية. ولكن، ولأنّ أولئك العرب، أصحاب مشروعٍ سياسي قبلي/عربي في الأساس، فلم يتمكّنوا من الانخراط الحقيقي في هذا الخليط الحضاري، وتدريجياً قاموا بإقصاء السكّان الأصليين للمناطق التي تم غزوها، وذلك مع بداية دخول العناصر الإسلامية الفارسية والتركية.
وفي الواقع فإنّ هؤلاء الفرس والأتراك عاملو المسلمين العرب أنفسهم بطريقة لم تخلُ من الجوْر والظلم، فالحركة الإسلامية التي انطلقت من شبه جزيرة العرب لم تتألّف أساساً من عناصر منسجمة، بل كانت خليطاً من القبائل المتنافرة التي تحالفت سويّةً لفترة قصيرة بحكم المصلحة. وهكذا بقيت الحركة العربية- الإسلامية حركة غير منسجمة وغير قادرة على تقديم ثقافة متكاملة أو مشروع حضاري متكامل كما فعل اليونان والرومان مثلاً. فبعد انطلاق العرب واحتلالهم لتلك البلاد حاول هؤلاء الاستفادة من الأمم المتعددة في تكوين شخصية عربية جمعيّة يمكنها لاحقاً طمس ثقافات الأمم المفتوحة- وهذا ما حاولوا فعله مع الفرس والماديين(الكورد) والنساطرة واليعاقبة، ونجحوا إلى حدٍّ بعيد مع بعضهم- التي انضوت تحت لوائها قسراً أو خوفاً، وأحياناً طوعاً، ولكن الثقافة العربية كانت أضعف من أن احتمال كلّ هذا الدَّفق الثقافي والفكري، فبدأت الشروخ تتعدّد في الدولة العربية- الإسلامية الوليدة، وعادت الصّراعات القبلية العربية القديمة مضافاً إليها صراعات شعوبية وأممية عميقة لم تلبث أن أنهكتها، فبدأ الفوضويات تدبّ فيها منذ العصر العباسي، فتعدّدت الدويلات والإمارات، وكثر الاقتتال في أمّة وهمية هي في الحقيقة خليطٌ بائسٌ غير قابل للانسجام من الأمم، فالشريعة التي كانت قادرة تدريجياً على إيجاد صفات مشتركة عديدة في التفكير والنظرة إلى العالم، لم تتمكّن من إيجاد تناغمٍ حقيقيّ بين هذه الأمم العديدة.
مع بدء الغزوات الأوروبية المتعدّدة، وبدء تحلّل التجمّع الأممي العربي- الإسلامي العريض، وانسلاخ أجزائه واحداً تلو الآخر، بدأ يتشكّل نوع من التقوقع في الشخصية العربية الجمعيّة مع نموّ جنون اضطهاد جماعي غزا عقول الأفراد أيضاً؛ فبات جنون الاضطهاد لا يحكم علاقة الشخصية العربية- الإسلامية الجمعيّة بالعالم فحسب، بل أصبح يحكم علاقات الأفراد والجماعات والتكتّلات غير المنسجمة في داخل هذه التجمّع الأممي، بعضهم مع بعض.
إلا أنّ جنون الاضطهاد حين يختلط بهوس دينيّ أسطوريّ يتعلّق بالخواص الخارقة المنسوبة لهذه الأمة، ينشأ لدينا مركَّبٌ نفسي شبيه بخليطٍ ساديّ- مازوشي صعب التحليل؛ فمن جهة نجد الجماعة تحتفل بقوّنها ومباركة الإله لها (الجزء الساديّ- المتحدّي- القويّ)، ومن جهة هي قادرة في لحظات على التحوّل إلى مشهد الضحيّة المقهورة التي لا حول لها ولا قوّة (الجزء المازوشي الذي يلتذّ بالقهر، حيث يستمد منه قوّة لإعادة شحن الجزء السادي- القاهر والمتحدّي)، وهذا كلّه يتم في مشهدٍ مسرحيّ غريب أشبه بمسرحيّات المونولوج الداخلي الانفصامي.
هذا المركّب النفسي الفردي- الجماعي يشكّل حلقة مفرغة من الصعب أن يخرج منها العرب، بسبب حاجتهم للشعور بهويّتهم غير القادرة على تقديم ذاتها في مشروعٍ حضاريّ متكامل، بسبب عدم وجوده أصلاً في أدبياتها التاريخية التي تختصر كلّ المشروع الحضاري في طريقة دينية سيادية، فبينما استفادت أممٌ أخرى كالتّرك والفرس وبعض الآسيويين من بعض من جذورهم التاريخية القديمة، بقي العرب أسرى صراعات صحرائهم القبائلية القديمة وتجسّداتها الحاضرة المختلفة.
انفجار المركَّب- فهم طبيعة الصِّراع المعاصر:
ما يحصل في الانتفاضات العربية ليس مجرّد ثوراتٍ على نظمٍ استبدادية، بل هي تجليّات لهذا المركّب النفسيّ الساديّ- المازوشي، ومن هنا نلاحظ كيف يتقاتل الأفرقاء بعضهم مع بعض كقتال الأعداء المنتمين لأممٍ لا تمتّ لبعضها بصلة. هناك حقدٌ لا يمكن سبر أغواره عند الأغلبية الساحقة من المشاركين في رقصة الموت الجماعية هذه. وجنون الاضطهاد بات يدفع بكلّ طرفٍ لأن ينسب للطرف الآخر صفاتٍ شيطانية تماثل تماماً ما كان ينسبه لعدوّه الخارجي. لنراقب فقط الصفات والألفاظ التي يستعملها ثوّار سوريا ضد النظام فنلاحظ أنها تطابق تماماً ما يستعمله النظام نفسه ضدّهم، وهي تماثل ما كان الطرفان (النظام والشعب) يستعملونه ضدّ الغرب وأميركا وإسرائيل. كما أنّ الأدبيّات الثورية والقتالية- على تفاهتها وسطحيّتها- تطابق تلك التي تستعملها حركات دينية متطرّفة مثل حماس والجهاد الإسلامي ضدّ إسرائيل.
هناك بالفعل قدرة هائلة عند كل من الطرفين على شيطنة الطرف الآخر بسرعة كبيرة، ومن ثمّ تحويلهم إلى عدوّ تاريخي حقيقي، وما هو حاصل هو أنّ كل طرف يتصرّف على الأرض كعدوّ حقيقي للطرف الآخر، بدون حتى الاحتفاظ بشعرة معاوية.
ما يحصل الآن في بلاد العالم العربي يوجب علينا أن نعيد النظر في كل ما كنا نعتقده حول قضايا العرب وصراعاتهم، فالمشكلة النفسية الجمعية- الحضارية أكبر من مسألة أرض فلسطين أو إسكندرونة أو عربستان؛ فلا شيء يمنع أنّ نفكّر بأنّ المهازل التي نراها الآن هي مجرّد تكرار لأشياء حصلت قبل أن يعيها جيلنا الحاضر. فما يحصل مثلاً في سوريا من اختباء المسلّحين بين السكّان، واستخدامهم كدروع بشرية وادّعاء حمايتهم في ذات الوقت، يجعلنا نفكّر في ممارسات التباكي والتمويه وإمكانية تمثيل عدّة أدوار عند المصابين بمرض “المجاهدون الضحيّة”. هذه الملاحظة في أكثر من مكان، تجعل من يريد أن يفكّر بدون الخضوع للتابوهات يقف متسائلاً:
هل هذا ما كانت تفعله حماس وغيرها في قطاع غزّة من سلوكيات في محاربتها للإسرائيليين؟ وهل الفيديوهات التي رأيناها لاختباء “المقاومين” في المدارس وأماكن العبادة صحيحة ؟ وهل كان للعرب نصيبٌ في ممارسة العنصرية مثلهم كمثل المهاجرين اليهود في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؟ ولِمَ لا؟ فكثيرٌ منهم يفعلونها مع مواطنيهم وجيرانهم في أحيائهم ومدنهم ومناطقهم. ألم تلعب سايكولوجية الصراع العربية منذ 1947 دوراً رئيسياً في تشريد الفلسطينيين وظلمهم، وذلك عندما رفض العرب الأردنيون والمصريّون تثبيت أقدام الفلسطينيين في الأراضي التي كانوا يسكنونها- والتي أعطتها لهم الأمم المتحدة- وحجّتهم كانت حجّة الكسول: “كل شيء أو لا شيء”؟
من يفتري على أخيه- الذي صار عدوّاً حقيقياً الآن- يمكنه بسهولة أن يفتري على عدوّه الذي يشعر تجاهه أصلاً بحقد دينيّ- تاريخي، وإذا كان ثوّار العرب وأنظمتهم في سوريا وليبيا ومصر والبحرين يعاملون منافسيهم وكأنّهم محتلّين خارجيّين أو عناصر غريبة لم تكن يوماً جزءاً من بلادهم، وإذا كان من الصالح برأيهم أن يكذبوا ليوقعوا بخصومهم الذين هم شركاؤهم في البلد، وإذا كان بعض هؤلاء يتصرف فعلاً بهذه الطريقة، فهذا يعني أننا ربما نسمع الأكاذيب في الكثير من تفاصيل ومشرِّعات القضية الفلسطينية منذ البداية، كما سمعناها في سوريا وليبيا وتونس ومصر. فقد بات من الواضح، لمن لا يخاف النظر والاستنتاج، بأنّ مبادئ “الغاية تبرّر الوسيلة” و”الحرب خدعة”، بالإضافة لممارسة التقيّة الدينية على نظاقات واسعة، بالإضافة للقليل فقط من الحقد الديني، تجعل كلّ ذي عقلٍ يقف متشكّكاً في كل قضايا العرب وادّعاءاتهم، وخاصّةً فيما يتعلّق منها بالحروب وقضايا الجهاد والثورات.
إذاً لدينا في هذه الفترة فرصة للتعرّف على سايكولوجيا الصراع في التجمّعات العربية، وكشف الكثير من الأوهام والخرافات والشِّعارات التي تحيط بكثيرٍ من الأيديولوجيات التي عشنا وتربّينا على كثيرٍ من تفاصيلها الوهميّة. فالعرب هم أكثر الأمم استفادةً من وجود إسرائيل من حيث لا يدرون، فهي مبرِّر وجود أنظمتهم، وحركات مقاوماتهم، والكثير من أدبيّاتهم؛ وهي مبرِّر ميزانيات دفاعهم وفشل دولهم وسياسات المراقبة والاستخبارات في بلادهم، وتقرير أيديولوجيات أحزابهم وتيّاراتهم ومذاهب الدّين المسموحة وتلك غير المسموحة لديهم؛ وهي حجّة قويّة لتبرير عدائهم الأيديولوجي العميق لأمم العالم وثقافاته.
إسرائيل اليوم هي مبرِّر وجود وعمل ومعطي هويّة العقل الجمعيّ العربي! إلّا أنّ هذا المبرِّر لم يعد نافعاً، بعدما انقلب المرض العدواني على المريض نفسه، ودخل الضحيّة في طور التحلّل والفناء الذاتي.