الشاعرية وتمزيق حاجز التفكير العادي


بقلم فادي أبو ديب

يُعرَف المنهج الشِّعري في التفكير بروحانيته المشتعلة تجاه مواضيعه، وبصدق حرارته الفيّاضة، وبأنّه حقيقةً فِعل تدفّقٍ لا ينقطع في الرّوح قبل الكلام.  والشِّعر بحسب هذا التفكير الشّاعري (الرومانسي) يتعرّف بدايةً بلغته الصُّوَرية الغنيّة والجامحة، وباندفاعه المتحمّس للكمال وبمقدار لامعقولية خيالاته وعوالمه المخلوقة والمُعاشة في عالمٍ داخليّ يتوق للخروج والخَلق في عالم الوقائع الملموسة.  وهذا التعريف يتقدّم بنظري على تحديدات الأوزان والقوافي الكلاسيكية التي تختلف باختلاف الحضارة واللغة والزّمان.

وهكذا فإنّي أرغب في الاعتقاد بأنّ الوجود بما فيه قد نُطِق من فم الله، بواسطة اللوغوس، شِعراً منذ البداية؛ فكأنّ الكون كلّه قصيدة من خيال الله، لم نعرف حتى الآن كيف نغنّيها ونفهمها على المدى المستمرّ للحظات حياتنا بسبب محدودية الجسد وتثبيطه لقوّة الفِكر.  ولكن رغم هذه المحدودية، إلا أنّه ومنذ فجر الحضارة وحتى اليوم يستمرّ البشر بنَظْم القصائد لكلّ ما يريدون أن يتّصلوا به اتصالاً عميقاً غير مُدرَكٍ بالحواس الخمس، وكأنّ دواخلهم قد دُرِّبت في اللازمن على التغنّي بدلاً من السّرد، وكأنّ هناك مَن أسرّ إليهم خِفيةً بأنّ ملامح بداية الطّريق تكمن في التغنّي باللاملموس بدلاً من وصف وقائع الملموس، الذي يخدع الروح بمتاهات لا تفضي إلى حقيقة يمكن الرّكون إليها في معرفة الأبدي.
الشِّعر إذاً ليس إلّا الهروب من دائرة الممكنات والتصاوير المنطقية إلى كلّ ما هو غير ممكن وغير ملموس وغير طبيعيّ، هو اعترافٌ لاإرادي منّا بأنّ الناطق فينا سَئِم من النّطق بكل ما هو عاديّ ورتيب في اللغة. والروح الشّاعريّة هي ارتقاء فوق المنظومة الطبيعية السائدة، لذلك لطالما عبّر القدماء عن عباداتهم عن طريق القصائد، فهي ليست مجرّد طورٍ من الأطوار التي يدخل فيها الشاعر الحقيقي، بل تشكّل نموذج تفكيره ونظرته لكلّ كيان وجوده الشخصي والوجود ككلّ.

الكثير من الكتابات والنصوص المقدَّسة تتألّف من قصائد وأشعار منثورةٍ أو مقفّاة بحسب الثقافة التي نشأت منها: القصائد الموجَّهة للإله الأسطوري “بعل” والإلهة الأسطورية “عشتار”، سِفر أيّوب من التناخ اليهودي، المزامير التي لم تستطع إلّا أن تستعمل هذا النّهج الشّاعري، بما فيه بعض الأشعار القديمة من حضارات أخرى، لتسبيح إيلوهيم يهوه، نشيد الأنشاد الذي هو قصيدة غزلٍ سليمانية وجدت لها مكاناً في قلب النصوص المقدَّسة اليهوديّ والمسيحيّ، قصيدة الخلق في اوائل سفر التكوين التوراتي، التراثات الصوفية المختلفة، ومنها قصائد يوحنا الصليبي وجلال الدين الرومي وغيرها مما لا يُحصى؛ فهو إذاً النهج الشِّعري في التفكير هو الذي ينقلنا دوماً إلى مستويات أخرى من التّعبير والإدراك فيما يتعلّق بالخالق أو فيما يتعلّق بالخليقة نفسها بكل مظاهرها الجمالية.
لا أعتبر هذا النهج مجرّد محاولة لغوية تختلف عن لغة السّرد القصصي أو التعليميّ، بل هو محاولة جدّية تنبع من داخل الروح البشرية الحسّاسة للتخلّص من الرّتيب والمتكرِّر والخامد، وهو ثورة حقيقية متكاملة العناصر لتمزيق عجز اللغة عن التعبير عن حقائق المكنونات الداخلية، وذلك عن طريق تكثيف الصُّوَر والاستعارات والمجازات، وجعل هذه كلّها هي البيئة التي نعيشها ونتنفّسها ونراها ونلمسها. إنه توقنا للتخلّص من العادي للوصول إلى ما فوق العادي؛ وهو أمل الارتقاء بالشّعور والذّهن إلى مراحل غير مسبوقة من الرؤية لما هو غير ملموس؛ وقفزة جنونية تريد لما هو غير بديهي في الفّهم البشري أن يصبح هو البديهيّ فيه وفي النظرة للعالم والوجود.
الشِّعر هو أننا نقول للُّغة العادية، لغة الحوادث اليومية ولغة السلوكيات الآنية الجسدية: “أنتِ تقيّدين كلّ حواسنا، وقرارنا الآن هو أن نحاربكِ في معركة لا تنتهي إلّا بموتنا أو موتِكِ.” هذه المعركة وإن كانت معركة ضد القوانين الطبيعية التي تحكم الإدراك والحسّ، إلّا أنها الفرصة الوحيدة لرؤية وتلمّس اللَّمَحات الخاطفة من ما هو فوق طبيعي في الفِكر البشريّ.

العقلانيون عادةً ما يخافون من الروح الشاعرية ويسعون لتثبيطها أو تمييع صورتها، لأنها تناقض أصول الفِكر الذي تنبع منه تخطيطاتهم وتنظيماتهم وأفكارهم وافتراضاتهم المسبَقة أو المستنتَجة، ونظرتهم المرسومة بدقّة للعالم في الماضي والحاضر والمستقبل، ولأنها تشكّل خطراً على أمانهم المزعوم بامتلاكهم خطّة تفسير العالم والوجود؛ والمتطرّفون الدّينيون يخافونها لأنها لا تدعم، بل ربّما تفكِّك، تشديدهم على الدوغمائية العقائدية والكثير من تفاسيرهم وآرائهم وتحليلاتهم ونظريّاتهم التي استخرجوها من النصوص والمرويّات الدينية، بشكلٍ تعسّفيٍّ غير مقصود حيناً أو بشكلٍ تزويريٍّ مدروس حيناً آخر؛ وأمّا المادّيون فيهزؤون بهذه الشّاعرية لأنّهم يرونها سبيلاً للجنون والعيش في الأحلام وبالأحلام، وتمنح للعقل البشريّ فرصةً أخرى للتقدّم بعيداً عن المنجزات المادّية للحضارة، التي هي في الواقع اليومي تُفسِد البراءة والفِطرة البشريّتين، بما فيهما من النّوازع الإنسانية السّليمة والقابلة للارتباط بكيانٍ روحيّ أكثر عُمقاً من السطحية الاختزالية التي يرى بها هؤلاء العالمَ والخليقة، كصيرورة ووجود وهدف نهائيّ.

وبوجود هؤلاء وأولئك وغيرهم تبقى الرّوح الشاعرية تكافح داخل صدر كل بشريّ يلتفت لإنسانيته، لكي تُظهِر للإنسان نفسه أولاً وللعالم الخارجي ثانيةً حقيقة الوجود، وسطحيّة الواقع الملموس والمظهر الواضح للنشاط البشري الحضاري، الخادع في معظم الأحيان.  هو بالتأكيد ليس عصرها الذهبيّ الآن، ولا أعتقد أنّه كان لها عصرٌ كهذا بمعنى الكلمة إلا في فترات قصيرة حديثاً وقديماً،  فالشاعرية الرومانسية ليست مذهباً يزدهر ويخبو وفقاً لعوامل معيّنة، بل هي اشتياقٌ إنسانيّ يجد دوماً طريقاً محفوفاً بالآلام ليعبّر عن ذاته في وسط عالمٍ مشوَّشِ، ما انفكّ عن كونه مادّياً حتى في ذروة ازدهار أديانه المُمأسسة.  فحتى في داخل كلّ دين يبقى الصراع محتدماً بين الشاعرية والعقلانية، وحتى بين الشاعرية والمادّية نفسها التي تجد لها جيوباً مخفيّة في كلّ فكرٍ ديني شديد التنظيم.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.