بقلم فادي أبو ديب
العزيز المنوِّر الذي لم أره، جان جاك روسو:
رحم الله ترابك، وسقى الصفصافة التي تظلل قبرك (إن كان هناك واحدة) يا نبيّ الإنسانية المخلص. واسمح لي أن أبدي إعجابي العميق بمكامن نبوّتك البارزة والبيّنة لكل ذي بصيرة.
لم يصدقوك، يا أيّها الإنسان الحقيقي، حين قلت لهم أنّ العلوم والفنون لها دور في تدمير البشرية والبراءة الإنسانية والنّقاء الفِطري وأنّها لا تلعب أيّ دورٍ زهيد في الارتقاء بإنسانية البشر؛ واليوم نكتشف أنّ الحق كان إلى جانبك، وليس إلى جانب الآلاف من فلاسفة العلم والتنوير والذين ظنّوا أنّ العلم طريق الكمال وأنّه السبيل الأوحد لتشكيل عالمٍ أفضل وأكثر سلاماً. فها هي الثورات العربية تثبت كيف أنّ ملايين المتعلّمين الذين خضعوا لعقودٍ من التربية المنهجية المدرسية والجامعية، العربية والأوربية والأمريكية، تمكنوا في لحيظاتٍ قليلة من العودة لبربريتهم الأولى، فبدل أن يقودوا بسطاء القوم وغوغائهم نحو رِفعة الأخلاق وسموّ الّروح، “تواضعوا” وتركوا الغوغاء والأوباش والهمج يقودونهم نحو انحطاط السّلوك ودناءة الغرائزية المتوحِّشة.
نبيّنا العظيم، بلادك اليوم هي مقرّ الكثير من هذه الفئران المخبرية التي تثبت دقّة نظرتك، وعمق بصيرتك، وسداد رأيك. وبلادك أيضاً هي اليوم الأكثر تطوّراً، ولكنها أيضاً الأكثر خبثاً والأشدّ نفاقاً وازدواجيةً. احتالوا على نظريّاتك فأخذوا منها ما يحتاجونه للإمساك بمفاصل أممهم، وتركوا ما يصيب كبرياءهم وغرورهم وتطوّرهم الفارغ في مقتل. أخذوا منها أهميّة الثورة بمعنى الارتقاء الإنساني والفِكري والروحي، وما تعلّموا أنّ الإنسانية أهم من الأوطان والمواطنة وكل القوانين التي تصطنعها سياسة البشر.
يا فيلسوف الإنسانية، تعلّموا منك الثورة على الموجود ولم يتعلّموا الأخلاق والإخلاص، قرؤوا كلماتك عن أهميّة الإنسان وما تابعوا ليقرؤوا ما كتبتَ عن الألوهة والضمير والاحتشام في الفكر والجسد. اقتبسوا منك نظريّاتٍ عن المساواة الأصلية بين البشر ليبنوا صروحاً ضخمةً من الزَّيْف، ولم يطبّقوها إلا على من يريدون هم.
أردتَ أن تربّي الإنسان عظيم الأخلاق، راسخ المبادئ، عميق الإحساس بالإنسان والطبيعة، متّقد الفِكر، متواضع المعارف، مقوداً بالروح الإلهية الداخلية، نابذاً للمظاهر والادّعاءات الشكلية الفارغة؛ فربّوه قليل الأخلاق، نسبيّ المفاهيم، سطحيّ الإحساس، خابي الذِّهن، محشوّاً بالمعلومات والنظريات والقواعد الجامدة، عابداً للمال والترفيه، نابذاً حتى لدين الضمير والفطرة.
بلادك اليوم تحتوي على أعظم المعاهد العلمية وأكبر مرتزقة العالم في آنٍ معاً، وبلادك لم يعد في أسسها القانونية والفِكرية إلا كلّ ما يتعدّى على النّقاء الإنسان الأصيل، فغصّت بفلاسفة اللذة الترفيهية التجارية والإباحية والثورات العسكرية ومبادئ الاستبداد العالمي.
قريباً من موطنك السويسري-الفرنسي يقوم معهد ضخم، يمتصّ أموالاً طائلة كانت لتطعم الكرة الأرضية مرّات ومرّات، وفي الناحية الأخرى من العالم، جنوباً يعاني مئات الملايين من الناس بفعل ظلم وبطش ووحشية من جاء بعدك من “الثوريين” السطحيين وأزلامهم في بلادك. نعم، إنهم يقيمون معهداً لاكتشاف نشوء الكون وهم لم يكتشفوا بعد إنسانية الإنسان الحرّة، فمنذ أيامك وحتى الآن ما زالت “أكثر المعارف الإنسانية نفعاً وأقلّها تقدّماً من بينها جميعاً إنّما…[هي] المعرفة بالإنسان”.
أتأسّف أن أخبرك اليوم بأنّ بلادك أصبحت اليوم مصدّراً رئيسياً للتفاهات الثورية الرّخيصة التي يقودها رعاع البشر وأكثرهم ضيقاً في الفِكر والرّوح. فليس من “إميل” في عداد ثوريّي هذه الأيّام، لا بل حتى أنّ ثوريّاتهن لَسن مثل “صوفيا” الخجولة الرزينة الدامعة العينين.
اعذرني يا أستاذي، فقد كانت نظرتكَ للبشر حسنة أكثر مما هو لازم. ألعلّك اكتشفت الآن أنّ مواطنك “كالفن” كان على حقّ في قسوة رؤيته للفساد الإنساني الشامل؟!