باتت مدينة حلب، بعد حمص ودمشق، مقصد أعدادٍ كبيرة جداً من جهاديّي العالم العربي،على ما يظهر من أحداث هذه الأيّام السّوداء التي تمرّ على عاصمة الشمال السوري. ولا شكّ بأنّ المدينة تتحضّر لمعركةٍ كُبرى ضارية لا مفرّ منها في الأيّام القادمة، وذلك بعد حَشْد الجيش السوريّ لعشرات آلاف الجنود ومئات الآليات العسكرية في المدينة ومحيطها، وتَنَادي الجماعات المتمرِّدة المسلَّحة للقتال من عدة مناطق في البلاد، بالإضافة إلى وصول كتائب عديدة مدجَّجة بالسِّلاح من المرتزقة الجهاديين من بلاد العرب وغيرها من بلدان الشَّرق والغرب. وللوهلة الأولى يبدو المشهد شبيهاً بما حدث ويحدث في مناطق أخرى من المدن والأرياف السورية من حيث التسليح الكبير لجماعات التمرُّد وعدد أفرادها المتزايد، إلا أن الفارق الخفيّ- إلى حدٍّ ما -هو تنامي درجة الكبرياء والغباء اللذين باتا يميّزان سلوك وتفكير الجماعات الجهادية التي ستشارك في المعركة العتيدة؛ فبعد أن كانت هذه الجماعات تسعى إلى استقطاب كافة أطياف المجتمع الذي تنشط فيه، من كُرد وعشائر عربية ومسيحيين وغيرهم، في بعض المناطق السورية، وبعد أن كانت غالباً لا تتخفّى بين جموع الشعب إلا بأسلحتها الفردية الخفيفة (غالباً)، بحجّة انبثاقها من هذه الجموع وسعيها لحمايتها وردّ الاعتداء عنها، تحوّلت هذه الميليشيات المسلّحة لقِوى احتلال صريحة ووقحة للأحياء المكتظّة التي تدخل إليها. كما صار الحضور الجهادي الأجنبي واضحاً ومعتَرَفاً فيه إلى حدٍّ كبير؛ هذا بالإضافة للأعمال الهجومية والاستفزازية التي أصبحت تميّز سلوك جماعات الجهاد تجاه العديد من مكوّنات المجتمع الحلبي، من كُرد وعشائر، الآن، وربما كان الآتي أعظم، بعد تصريحات قادة هذه المجموعات المتمرّدة عن سعيهم المحموم للسيطرة على كافة أحياء المدينة، بدون سؤال رأي ساكنيها بكل تأكيد. ولقد بات واضحاً بأنّ الوقاحة الجهادية البارزة في حلب خصوصاً أبعد من أن تهتمّ بمصير السُّكّان، وأنّ عدم اكتراث هذه الجماعات العاملة تحت لواء هذا الجِهاد لمعظم مكوّنات المجتمع هناك، يجعلها تعمل في بيئة عدائية، أو غير مرحِّبة على أقلّ تقدير. وهذا يختلف كثيراً عن وضعها في مناطق أخرى من سوريا.
إنّ التعصّب الأعمى قادرٌ على تحويل أيّة قضيّة عادلة أو فيها شيءٌ من العدل والحقّ إلى مجموعة من السلوكيات والمَطالب الفوضوية والعشوائية، والتي تصيب صاحبها بما يشبه الهذيان المسعور الذي ينتهي به إلى الهلاك المُبرَم العنيف؛ وما فعله ما يُسمّى بالجيش الحرّ هو تطوّر من حالة تلقائية أو شبه تلقائية، وجدت من يدعمها شعبيّاً ودولياً، إلى حالة إجرامية مافيوية منظَّمة، مُصابة بالذُّهان الجماعيّ الذي يؤدّي بأفرادها إلى حالة من الخروج عن واقع أنهم يواجهون جيشاً محترفاً وجرّاراً. وهكذا أعطت هذه الجماعات المافيو- جهادية لنفسها الحقّ في الحديث باسم الشعب والله والحقّ والعدالة، وبدأت تقتص من أفراد الشعب المخالفين والمسؤولين الحكوميين بدون محاكمات، وقد باتت هذه السلوكيات ممنهجة لدرجة تصل أحياناً إلى ارتكاب مفاسد وموبقات ربما لم يرتكبها النظام نفسه في عِزّ سطوته.
وعلى هذا فإنّ السلوكيات المتعجرفة التي ترتكبها جماعات الجهاد المجتمعة في سوريا عموماً، وفي حلب خصوصاً، لن تأتي إلّا بالوبال والدّمار عليها أولاً وعلى المدينة وأهلها ثانياً. وقد وصل هؤلاء فعلاً إلى حدّ الانتحار العسكري الحقيقي عبر جنون العظمة الجمعيّ الذي يبدو بأنّه يضرب بأطنابه في صفوف الجماعات المتمرّدة، قادةً وأفراداً، وذلك من خلال حاملٍ أيديولوجيّ دينيّ رثّ ومدمِّر. وأعتقد أنّه من نافل القول الحديث عن افتقار هذه المنظمة المافيو-جهادية، وخصوصاً قادتها الميدانيّون، لأيّ قارئٍ حقيقيّ للتاريخ، علّه يرى بأنّ السلوك الجمعيّ للمنظومة التي يشارك بها هي استنساخ حقيقيّ متكامل الجوانب لمئات الجماعات الثائرة عبر التاريخ، والتي انتهى معظمها أو كلّها إلى محارق كُبرى.
ستشهد حلب إذاً محرقة حقيقية بحقّ الجماعات المتمرِّدة، محرقة ستكون الأكبر كما أرى في تاريخ الحركة الجهادية الحديثة، التي نالت في سوريا ما لم تنله عبر عقود في كل البلدان مجتمعةً.