بقلم فادي أبو ديب
(إلى روح الإعلامي السّوري محمّد السعيد الذي تمّ خطفه وتعذيبه واغتياله على يد الوهابيّين وأتباعهم)

تحوّلت المعركة في سوريا اليوم، وبعد مرورها بعدّة أطوار تتدرّج من السِّلمية بنسبة عالية إلى العنف الشديد، إلى معركة فكريّة ودينيّة عالمية تتمركز شيئاً فشيئاً في هذه البقعة من وسط العالم؛ وهذه المعركة قد تحدّدت أطرافها بين نمط حياة وتفكير الديانة الوهابية السّوداء ونمط الحياة الإنسانية الطبيعية بكلّ ما فيها من بياضٍ وسواد؛ فسوريا تتعرّض اليوم إلى هجمة دينية تكفيريّة غير مسبوقة في تاريخها، تقودها بشكلٍ واضحٍ وعلنيّ الديانة الوهابية المسلّحة بالمليارات النفطية وآلاف رجال الدين الظلاميّين، مُلحَقاً بها كلّ المخدوعين والمرتزَقة من حَمَلة السِّلاح والأقلام.
لربّما كانت الوهابية، بإلهها الأسود القاتم، تفوق شرّاً كلّ شرور الأرض مجتمعةً؛ فهي وحدها مصدر أشدّ الأفكار الدينية عُنفاً ودعوةً للقمع والقهر والقتل، ومن الجليّ على المسرح العالمي بأنّ ما تنتجه هذه الديانة الرّهيبة من مهووسين دينيين عاشقين للعُنف يفوق ما تنتجه كلّ المذاهب الدينية والفلسفية والوضعية المتطرّفة، والتي في معظم الأحيان لا يتجاوز تأثير تطرّفها منزل الشخص أو حيّه الصغير.
معظم راديكاليّي الأديان والفلسفات العالمية يأخذ تطرّفهم (بحسب مقاييس مناهضيهم) شكلاً ناموسياً أخلاقياً متشدِّداً، كما أنّ الكثير من الأديان تشهد ظاهرة تناسبٍ عكسيّ بين التطرُّف الدينيّ والانغماس في الشؤون السياسية والحكومية، حيث يلجأ كثيرٌ من الأصوليين إلى الابتعاد عن المنظومات السياسية بكافّة أشكالها، سلباً (الانقلاب ضدّها) أو إيجاباً (الولاء لها)، لإيمانهم بفسادها وعدم قابليتها للإصلاح. وهناك قلّة من هؤلاء الراديكاليّين تأخذ على عاتقها الانخراط في نضالٍ مجتمعيٍّ- غير ملوَّث بالدّماء بطبيعة الحال- من أجل محاولة فرض نمط تفكيرهم أو حياتهم في المجتمع أو على الأقل من أجل نوال حرّيتهم في عدم اتّباع قوانين لا يريدونها؛ وقلّة قليلة تكاد لا تُذكَر تنخرط في أعمال عنف وتشكيل خلايا قتالية .
وإلى جانب كلّ هؤلاء تقف الوهابية وحيدةً في حقيقة كونها أكبر مموِّل لآلاف الحركات القتالية المدجَّجة بالسلاح في كافّة أنحاء العالم، وهي وحدها المسؤولة عن إنشاء عشرات آلاف المدارس الدينية بالغة التطرُّف، والمسؤولة بدورها عن تخريج ملايين المتطرّفين الجاهزين، تحت ضغط أيّ عارضٍ هَوَسيّ أو حَدَثٍ خارجيّ، للتحوّل إلى إرهابيّين محترفين بإيديولوجية إرهابية متكاملة الجوانب.
وإذا كان منظّرو الوهابية يتّهمون مخالفيهم بالكُفر أو الزّندقة بسبب “اتّباعهم لوساوس الشيطان”، فإنّهم قد ابتعدو عن واقعهم الذي يراه كلّ مراقبٍ خارجيّ من غير الواقعين في مستنقعهم، والذي يدلّ على أنّهم هم أنفسهم يعبدون الشيطان مباشرةً، وهكذا يكون إثمهم أكبر، وخطيتهم لا تُغتَفَر إلا بمعجزة حقيقية. فمَن غيرهم يدعو للقتل ببساطة؟ ومن غيرهم يعتبر نفسه وليّاً مباشراً على حَيَوات الناس ليغيّروها بإيديهم سِياطهم وسيوفهم؟ ومَن غيرهم يعتبر أنّ كل موضعٍ تطأه أقدامهم صار لهم فيه أكثر من ساكنيه الأصليين بفعل وعود إلههم الوهمي لهم بامتلاك الحقّ في كل أراضي المعمورة؟
وهكذا يقف الوهابيّون وحيدين في تملّكهم لرغبة إخضاع العالم بتفاصيل نشاطاته الجماعية والفردية، وإصرارهم على التدخّل في مجالٍ واسعٍ لا ينتهي من القضايا، ابتداءً بإدارة الحكومات وليس انتهاءً بإدارة الملابس الداخلية وجغرافية المناطق المسموحة الظهور من الجَسَد النِّسائي (إن وُجِدت). وبالفعل فإنّ هذه الرّغبة في هذه السيطرة غير مسبوقة كما اعتقد في تاريخ الشرائع الدينية، فلشريعتهم هذه وجهٌ مزدَوَج: وجهٌ يختلط فيه حبّ ساديّ للسيطرة على الآخر المختلف مع مازوشية تستمتع بالاعتقاد بكراهية الجميع لهم، ووجهٌ آخر شهواني جسدانيّ يرى في العالم كلِّه بنسائه وأمواله وغِلمانه داراً واسعة لخدمتهم وخدمة إلههم الأسود.
العالم اليوم، والشرق الأوسط بشكل أكثر خصوصيةً، دخل في المعركة الكبرى بين الوهابية والظاهرة الإنسانية، بين عالمٍ يحكمه بشكلٍ مُطلَق إلهٌ شيطاني وعالم آخر ما زال للإنسان فيه حرّية الوقوف إلى الجانب الذي يختار. عالمنا البعيد عن الوهابية ليس خيراً مطلَقاً، بل هو عالمٌ طبيعيّ فيه ما فيه من أفكار الخير والشرّ، وأمّا الوهابية فكلّ ما فيها من أشياء جيّدة هو في النهاية مغلَّفٌ بإحكام بنظرة شمولية شرّيرة تقضي على كلّ خيرٍ قد يصدر من بعض أفكارها. ومَن يدري؟ فلربّما كانت الوهابية هي النواة لتشكيل أمبراطورية أيديولوجية- سياسية شرق أوسطية، وبوتقة تنصهر فيها كل الأفكار المتشدّدة الأخرى التي تجد في أحضان الإله الوهابي موطناً نهائياً تستقرّ فيه وتستمتع بغنائمه وسباياه.