الـ BBC ويسوع “البوذيّ”!


بقلم فادي أبو ديب

يبدو أنه فعلاً لا يمكن للإنسان أن يثق في ما تقدّمه وسائل الإعلام مهما كانت سُمعتها جيّدة؛ ففي وثائقي من إنتاج الـ BBC عن حياة يسوع المسيح وعلاقته المفتَرَضة بالديانة البوذية، يدّعي مقدّمو البرنامج- من بين عدّة ادّعاءات أُخرى- بأنّ قول يسوع “طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض” (متى 5: 5) هو في الحقيقة ذو جذور في الديانة البوذية، وأنّ يسوع لم يأتِ بهذا الكلام من التراث اليهودي (العهد القديم) الذي لا يحتوي بحسب قولهم أيّ أثرٍ لمثل هذا التعليم.  ولكن بفحصٍ بسيط غير معقَّد للتراث اليهودي الذي كان متوافراً زمن يسوع يجد المرء أنّ العهد القديم يصرِّح حرفياً في المزامير بأنّ “الودعاء يرثون لأرض” (مزمور 37: 11). هذا عدا عن تصريحات أخرى مشابهة في العهد القديم عن بركة الودعاء في الأرض.
ويورد البرنامج، وهو بعنوان “هل مات يسوع؟” كلاماً عن مشابهة أعاجيب يسوع لأعاجيب بوذا (وهذا ليس فيه مشكلة أصلاً)، رغم أنّه كان بالأوْلى مقارنة هذه الأعاجيب المسيانية بأعاجيب قامت بها شخصيات من العهد القديم، من أمثال موسى وإيليّا ويشوع بن نون؛ فمن المرجَّح بشكلٍ كبير أن يكون كَتَبة الأناجيل قد ركّزوا على أعاجيب معيَّنة لكي يوصلوا رسائل تعني الكثير لليهود الذين لم يأمنوا بالمسيح، وتشكِّل إثباناً دامغاً لهم حول المصدر الإلهية للأعاجيب التي قام بها يسوع، والتي نسبها بعضهم لمصدرٍ شيطانيّ، وكأنّ لسان حال الأناجيل يقول لليهود مجادلاً: “إن كان موسى ويشوع وإيليّا قاموا بأعاجيبهم بواسطة إلهية فانظروا جيداً إلى أعاجيب يسوع الناصريّ، واستدلّوا عن مصدر أعاجيبه!”.

وهكذا فإنّ سَيْر يسوع على الماء يجب أن يذكِّر اليهوديّ بأعجوبة شقّ موسى للبحر الأحمر وشقّ يشوع بن نون لنهر الأردن، وإنّ سُلطة هذيْن الأخيريْن على الماء يجب أن تعني لليهود غير المؤمنين بالمسيح الشيء الكثير عندما يرون ويسمعون عن سُلطة يسوع على هذا العنصر الطبيعيّ.  كما أنّ أعجوبة تكثير الخبز والسّمك التي قام بها يسوع مرّتيْن تكاد تتطابق مع أعجوبة تكثير إيليّا للدّقيق والزّيت عند أرملة صَرَفة، وإنّ إقامته لابن أرملة نائين تتطابق تقريباً مع إقامة إيليّا لابن المرأة الكنعانية السابقة الذِّكر (1 ملوك 17).  وليس من الغريب أن يلجأ البشيرون إلى محاولة تذكير اليهود بأعاجيب موسى وإيليا، خاصّةً وأنّ متّى ومرقس ولوقا قد شدّدوا أيضاً على أعجوبة تجلّي المسيح على جبل تابور وظهور موسى وإيليّا يتكلّمان مع يسوع. (متى 17؛ مرقس 9؛ لوقا 9)


ومن الجدير ذكره أنّه من الصعب معرفة ما هي أجزاء البوذية الموجودة فعلاً من قبل زمن المسيح، وما هي الأجزاء التي تطوّرت بعد اختلاط هذه الديانة مع النساطرة في الصين والهند، والذين كان لهم حضور كبير في تلك البلاد وخصوصاً في النصف الثاني من الألفيّة الميلاديّة الأولى، حيث ساهم هؤلاء في التأثير على فرع “الماهايانا” من الديانة البوذية، والذي أصبح يحتوي على أسطورة البوذا الذي سيعود بعد أن يكثر الشرّ في العالم (ميترايا)، وذلك في مشابهة واضحة للعقيدة المسيحية الأصيلة حول العودة الثانية ليسوع المسيح إلى الأرض.

إنّ السؤال الذي يتبادر فوراً إلى الذِّهن عندما مشاهدة هذه الكمّيّة الكبيرة من التجاهل وقلّة الموضوعية عند وسيلة إعلامية ضخمة كالبي بي سي، هو عن مقدار التزييف الذي قد تحتويه محتويات هذه  الوسيلة وغيرها ممّا لا يمكن للمشاهد العادي وغير المختصّ اكتشافه؛ فالملاحظة المذكورة في هذا الوثائقي عن عدم ارتباط تعليم يسوع بما قبله من العهد القديم، والتي يمكن اكتشاف بُطلانها، لا بل وإثبات عكسها بالدّليل الدامغ، لا تحتاج إلّا لبعض المعرفة الكتابية أو قليل من الجهد في البحث؛ فكيف إذاً بالمزاعم التي تتحدّث عن مخطوطات موجودة في غياهب المتاحف أو في البلاد البعيدة (ومنها ما ذكره الوثائقي نفسه حول قبر موجود في كشمير)، والتي لا يمكن للإنسان العادي الوصول إليها للتأكّد من كافّة الحقائق حولها؟

من حيث المبدأ ليس هنالك أيّة مشكلة في البحث حول موضوع علاقة مفتَرَضة ليسوع بالبوذية وبلاد الهند أو أيّ موضوع آخر، فهذا لا يعطي رسالته مصداقية ما كما لا ينفيها عنه، كما أنّه لا يثبت ولا ينفي أي شيء يتعلّق بطبيعة شخصيته؛ إلّا أنّ الطّرح الوثائقي الموضوعي لا يمكن في أيّ حالٍ من الأحوال أن يعتمد على إغفال تفاصيل أو تغييرها أو نفي بعضها ممّا قد يكون معدّو البرنامج غير متمكّنين منه، وخاصّةً إن كان وارداً بوضوحٍ وحرفيّة في الكُتُب التي هي موضوع نقاش؛ والبرنامج يعتمد على مقولات كاتب روسي قديم وعلى بعض الأساطير الكشميرية القديمة لربط قبر “يوساساف” بيسوع المسيح، من دون طرح كافّة التفاصيل التاريخية والأثرية العلميّة المتعلّقة بالموضوع وبالموقع الأثري. فهل يمكن بناء قناعة ما على رواية قاصّ مغامر وعجوز مسكونٍ بخليطٍ من التاريخ وقصص الأقدمين؟  لا أعتقد أنذ هناك إجابة كافية عن أسباب لجوء وسائل الإعلام لسلوكياتها هذه إلّا بأن نقول بأنّ ما يهمّ الإعلام في المرتبة الأولى هو جذب الجماهير عن طريق المبهَمات والروائيات المسلّية ولكن التي لا يمكن الرّكون إليها في بناء قناعة ما.

موضوع ذو صلة:

هكذا يحوِّل الإعلام العربيّ المقدَّسات إلى أساطير

الإعلان

2 comments

  1. سواء كبار و لا صغار مشهورين ولا مغمورين بيضلوا وسيلة من الوسائل الكتيرة اللي بإيد إبليس اللي ما رح يتوانى عن اسخدامهن لخدمة هدفه بإبعاد الناس عن الله و تشكيكهم بشخصية المسيح و العمل اللي عمله على الصليب…

    • صحيح أخي سامر
      للأسف الناس بشكل عام تُخدَع بالأسماء والألقاب والشهرة، ولكن كله في الجوهر ذات الشيء: تضليل وخداع. هم فقط يستغلّون عدم وجود الفرصة لجميع الناس لملاحقة ادعاءاتهم في هذا الموضوع وغيره.
      وأكثر شيء مثير للسخرية أنه في أحد البرامج الوثائقية العلمية البحتة، يتجرّأ المذيع في النهاية ليقول “لا نستطيع إثبات كل شيء، ولكن علينا أن نتحلّى بالإيمان.”
      إيمان ولكن على طريقتهم!

اترك تعليقًا على comingeon إلغاء الرد

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.