الوهابية الثقافية هي- كما يدلّ اسمها- ظاهرة ثقافية سياسية ذات طابَع ديني، ليس من الضروري أن تكون ملتزمةً بالتفاصيل العقائدية لهذا المذهب التكفيري الذي أسّسه أصلاً محمد بن عبد الوهاب، وهو داعية ومحارب نجديّ عاش ومات في القرن الثامن عشر؛ فهذه الظاهرة الجديدة إلى حدٍّ ما تتضمّن تسليماً كاملاً للتوجّهات الدينية لهذه الديانة واستراتيجيّتها وطريقة نظرتها للعالم وتفاعلها معه، والذي يتّخذ طريقيْن متوازييْن:
– الطريق الأوّل هو الطريق الظاهري الذي يعتمد على الطُرُق السياسية المعتادة وعلى شراء كلّ شيءٍ بالمال، وعلى العلاقات المتشعّبة وتقديم الخدمات الكبيرة لأصحاب القرار العالمي.
– والطريق الثاني وهو طريق سرّي يعتمد على إنشاء عشرات آلاف المدارس التكفيرية حول العالم، والتي تنتج خزّانات بشرية هائلة من مشاريع الإرهابيين بشكلٍ لا يحر مباشرةً الأمّ الروحية لهم- الوهابية الدينية. كما يقوم أيضاً على تسخير الطريق الأوّل لخدمة أهدافها التوسّعية.
الوهابية الثقافية أكثر خطراً بكثير من الوهابيّة الدينية، لأن الثانية وإذ كانت معروفة البنية والتنظيم ومواقع التمركز وهويّة منظّريها فإنّها يمكن أن تكون مرفوضة من كثير من المجتمعات، بينما تبقى الأولى متحوّلة الشكل الخارجي، من دون بنية معروفة، ومن دون منظّرين معروفين أو تنظيم دينيّ واضح، أو تفاصيل عقائدية مميِّزة، بل هي فقط تتبع فلسفة الوهابية الدينية وتكتّلاتها المالية الضخمة، وبالتالي تتبع لها في تنفيذ الغزو الوجودي والديموغرافي للعالم من آسيا وحتى أمريكا الشمالية مروراً بأوروبا وأفريقيا؛ فالوهابية الثقافية هي إنتاج أكثر “تمدّناً” من أمّها الدينية، وهي تستعمل بنيتها التحتية الإيديولوجية بطريقة مرنة وعصرية قابلة للتخفّي والهجوع لسنوات طويلة.
الزمن الوهابي بات الآن هو السيّد في عددٍ من المجتمعات البعيدة عن الوهابية بمؤسساتها الدينية، فتونس ومصر وليبيا والأردن ولبنان وسوريا وحتى تركيا لم تعد ربّما بمنأى عن وصول الأشكال المعدَّلة عقائدياً ، والتي تملك نفس الأثر السُمّي، من الوهابيّة؛ فليس من المهم أن يمتلك الإنسان إيماناً راسخاً بعقيدة التجسيم الوهابية حتى يكون خاضعاً لسيطرتها المطلَقة، كما لا يجب أن يكون مقتنعاً بتفاصيل وشروط التكفير وعدمه، على طريقة ابن تيميّة وابن عبد الوهاب وابن قيّمٍ الجوزية، طالما أنه يسلك على أرض الواقع سلوك التكفيريّ الرّافض لكل مختلف. كما أنّ الوهابية الثقافية لا تشترط – ضرورةً- عند معتنقيها إطالة اللحية وحفّ الشارب وعدم الاختلاط (وإن كان هذا محبَّذاً)، بل هي لا تحتاج إلّا لكي يكون أتباعها ممّن ينظرون للعالم على أنّه ساحة جهاد مليئةً بالكُفّار، أو أن يشعروا في أنفسهم بأنّهم جنودٌ “مدنيّون” جاهزون دوماً لتقديم خدماتٍ “لوجستيّة” في معركةٍ يقودها جنود الدّين وعلماؤه.
مصر التي يقودها الأخوان المسلمون، الأعداء التاريخيّون للسلفيّة (ومنها الوهابية)، لم يعودوا اليوم على هذا البُعد الكبير من هذه الحركة، وذلك بعد أن دخلت الأموال السعودية والقطريّة الوهابيّة الصافية، في كافّة عروق المجتمع المصريّ، ويكفي ربّما تذكّر الجيش الجرّار من المسؤولين السياسيين والدينيين المصريّين الذي ذهب للاعتذار من الملك السعودي على إثر إهانة مزعومة تلقّاها من مواطن مصري، هذا من دون نسيان زيارة تقديم الطاعة التي أدّاها الرئيس المصري الأخواني المنتَخَب للسعودية، والأموال القطرية التي وجدت لها موطئ قدم ويد في البنوك المصرية الجائعة. وإن كانت هذه القبضة الحديدية التي بدأت الوهابية تُحكِم بها سيطرتها على مصر قد بدأت بالاشتداد تدريجياً، فإنّ هذا يصحّ حتماً على ليبيا التي أسقطتها الوهابية أصلاً، وعلى تونس التي تمرّ بالأزمة تلو الأزمة، وعلى لبنان الذي أصبح مرتعاً للوهابية الثقافية والدينية عبر آل الحريري وأموالهم الطائلة ذات المصدر السعودي؛ وبالطبع لا يمكن نسيان الأردن الذي يحتاج لكل دولارٍ من سادات الوهابية سواء شاء أم أبى.
هي إذن إمبراطورية لا زالت خفية وغير متكاملة العناصر حتى الآن، وهي أيضاً إيديولوجية تستخدم الغرب كما أنّ الغرب يستخدمها. وبرأيي فإنّ مَن يظنّ أنّ الوهابية هي مجرَّد أداة في يد الغرب والصهيونية فهو مخطئٌ خطأً تاريخياً عظيماً؛ فالوهابية انتشرت بفعالية قبل أيّ ظهور تاريخي حقيقي للصهيونيات على أنواعها- السياسية والدينية والثقافية، وقبل ظهور الولايات المتحدة على المسرح الدولي. وهي تستخدم كلّ علاقاتها مع الغرب لتنفيذ أجندة خاصّة ومنفصلة تماماً عن أيّ مشروع غربيّ، ولكي تحقِّق انتشارها الذي لا يمكن إيقافه من قِبَل الغرب؛ فالمال الغربي وجيوش الغرب كلّها تستطيع أن تقضي على المؤسَّسات الدينية وتجفيف منابع أموالها في أحسن الأحوال، ولكنّها لا تستطيع تجفيف الثقافة الخطيرة التي بدأت بالانتشار بشكل تاريخي حاسم منذ حوالي 250 عاماً، وهم لم يستطيعوا إلّا استخدام المؤسسات السياسية للوهابية لتحقيق بعض اهدافهم، في حين ظلّت المؤسسات الدينية تعيث فساداً في العالم من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه. الوهابية الثقافية هي ديانة الإمبراطورية التي تحاول الانتشار على مساحة العالميْن العربي والإسلامي، بالعَلَن تارةً وبالخفاء تارةً اخرى، وها هو قد حقّق انتصاراتٍ مهمّة، وكاسحة أحياناً، في مصر وليبيا وتونس ومالي ولبنان وسوريا والمغرب. وإن كان الغرب يدعم هذه الحركات غافلاً أم متعمِّداً، فإنّه في كلتيْ الحالتيْن سيجد نفسه مستقبلاً مضطَرّاً لكي يعود بجيوشه إلى هذه المنطقة البائسة، ليحاول أن يقتلع الزؤان الذي سقاه في يومٍ من الأيام وهو يظنّه حنطةً منتجة، فهذا التّحالف بين العلمانية الغربية- الشمالية والأصولية العربيّة الجنوبية ( والمتمثّلة بمنتَجات الوهابية) لا يمكن أن يستمرّ للأبد، والاصطدام الحضاريّ قادمٌ لا محالة بين الشمال والجنوب، على عدّة مراحل وبمشاركة أطراف عديدة، مباشرةً بعد تبلور الهويّة السياسية لأحد أنواع الإسلامويّة التي تزدهر الآن عن طريقة البترودولار الوهابيّ.