“لأنّ الحُكم هو بلا رحمة لمن لم يعمل رحمة، والرّحمة تفتخر على الحُكم”
يعقوب أخو الربّ
حتى اليوم، قليلة هي النصوص والكتابات الدينية التي واجهتها، من غير بعض الأدبيّات اللاهوتية الكلاسيكية والفلسفية الوجودية ، ممّن تعطي الألم البشري حقّ قدره، وتتخذ على عاتقها السعي لتخفيفه ومعالجة أسبابه الاجتماعية؛ فالوصف الموضوعي الموجود في معظم الفلسفات والأديان للواقع البشري شيء مؤلم حقّاً، بحيث أنّه في معظم الأحيان يتمّ التعامل مع الإنسان على أنّه “شيء” ينبغي إصلاحه أو تقويم اعوجاجه (حتى لو قيل غير هذا)، ونادراً ما يتمّ إدراك وتقدير ووصف مقدار الكارثة الفادحة اللاحقة بهذا الوجود وبهذه الصورة الإلهية المقموعة.
إحدى المسائل التي لا توليها الأشكال الأكثر دوغمائيةً من الدّين قيمة مهمّة ينبغي النضال الاجتماعي لأجلها في المجتمع هي مسألة العدالة الإنسانية؛ فهذه التيّارات غالباً ما توكل مسألة العدالة إلى العمل الإلهي اللاحق. وإذ كان هذا التوكّل صحيحاً من حيث أنّه يدرك بأنّ الخالق هو الذي تجتمع في يده العاملة كلّ أمور الإنسان، إلّا أنه يفشل غالباً في إدراك القيمة المجرّدة للكفاح من أجل العدل والسلام؛ فالسعي للعدالة الاجتماعية يجب أن يحمل في طيّاته الإرادة في بناء عالمٍ أفضل بالمقاييس الإلهية لهذا الإنسان، ولا يشترط أن يترافق مع فتح أبوابٍ للمؤسسات الدينية لكي توصل رسالة دوغمائيّة معيّنة، مهما سَمَت هذه الرسالة. ومع أنّه من حقّ أيّ مذهبٍ أن ينشر أفكاره، إلّا أنّ هذا لا يجب أن يُعطى أولويّةً على بناء الإنسان كإنسان بكلّ ما فيه من مواهب ومقدَّرات طبيعية موهوبة من الربّ الخالق، بعيداً عن حقول المؤسسات الدينية ومتطلّبات مكوّناتها الهَرَمية والتنظيمية والإدارية. ورغم الإدراك بأنّه لا رجاء في صناعة عالمٍ كامل أو حتى قريبٍ إلى العدالة الحقّة، فإنّ هذا لا يُخلي الإنسان الروحيّ من المسؤولية المنوطة به نتيجةً لمعرفته المفتَرَضة لبذار الحقّ الإلهيّ.
إنّ الوعظ الذي قدّمه يسوع المسيح كما هو مدوّن في الأناجيل المسيحية ارتكز في أجزاء كبيرة منه على نشر قيم المحبّة بين الإنسان وخالقه وبين الإنسان ونظيره الإنسان، وهذا يتّضح في موعظته الأشهر على جبل التطويبات؛ فقد طوّب الحزين والمسكين بالرّوح والوديع والمضطَّهَد والجائع للبرّ والرّحوم، وعلّم عن معاني الغضب والزِّنى والقتل بما يكفّ شرّ الإنسان عن أخيه حتى بالكلام والنظرة والتفكير، وأنزل من قيمة المال ونظرة المجتمع إليه يحيث علّم عن عدم التعلّق به حتى في حال إقراضه للآخرين (متى 5-7). كما أنّه تطرّق مرّات عدّة إلى مسائل العدالة الاجتماعية واحترام قيمة الإنسان حين تحدّث عن الغفران الإلهي الذي لا يشترط مقابلاً؛ فالسيّد الذي يغفر دين العبد الهائل البالغ عشرة آلاف وزنة (متى 18) يعلّم عن الاختراق الإلهي العظيم في تقدّمه نحو البشر، بتجاوزه قوانينه الذاتية لأجل استرداد الإنسان وصورته الإلهية البنويّة، فكيف يقوم إنسان اليوم والأمس والمستقبل بظلم أخيه وتقديس قوانينه الشخصية التي اشترعها على حساب الكيان البشري النابض بالألوهة والمختزِن لها؟! إنّها حقّاً مفارقة مؤلمة تعبِّر عن مدى القسوة البشرية، لا بل القسوة الشرائعية الناموسية التي تتّخذ أحياناً أشكالاً علمانية قانونية، وأحياناً أخرى أشكالاً دوغمائيّة دينية- تنظيمية تصبغ نفسها بالقداسة.
غالباً ما يصرّ التنظيم الدينيّ المسيحي الأكثر دوغمائيّةً على عدم الولوج عميقاً في قضية المكافحة لأجل العدالة بحجّة عدم التلوّث بالقضايا المادّيّة العالمية (وغالباً ما يكون تدخّله يهدف إلى ازدهار التنظيم بطريقة أو بأُخرى)، كما يعلِّم بشكلٍ دائم على أنّ انتظار الإنسان لعدالة الرب تدلّ على روحانية عظيمة؛ ولكنّ هذا التنظيم يتناسى بأنّ كون العدالة تأتي لاحقاً فهذا لا ينفي أو يقلِّل من قيمة وكارثية عدم العدالة في هذا العالم، وبالتالي فإنّ هذا التحقّق المرتَجى لا ينفي بأيّ شكل المسؤولية الإنسانية للكفاح من أجل العدالة بما يتّفق مع الاقتداء بشخصية يسوع المسيح اللاعُنفية واللامُلتوية الأساليب. ومن الملاحَظ بأنّه في كثيرٍ من الأحيان يتّخذ الأسلوب الديني الرسميّ في الحديث عن غياب العدالة في العالم صيغة موضوعية تشبه الحديث عن دستور علمي ينطق به العلماء من أبراجهم العاجية البعيدة عن الواقع الوجودي المُعاش، ولا يُستَشعَر فيه صرخة الألم والدعوة للعمل الجادّ المخلِص البعيد عن خدمة التنظيمية؛ فالحديث عن غياب العدالة إنّما هو حديثٌ في جوهر مشكلة الإنسان الوجودية، التي تتجلّى في حياة الفرد والمجتمع، في العمل والزواج وداخل العائلة وضمن التنظيمات التي تتبع شريعة الغاب بجلاء أو بخفاء. إنّها حقيقة يجب على من يظنّون أنّهم روحانيّون حقاً أن يدركوا أغوار أعماقها ودلالاتها، وأن يشعروا في دواخلهم بكلّ الألم الوجودي الناتج عن هذا الوجود البشري الغريب والمؤسف.
لذلك، فإنّ حالة الإيمان ليست عملية اكتساب قناعات أو سلوكيات فحسب، بل إنّها حالة تحوّل كلّي في صُلب إدراك الإنسان لوجوده وماهيته. إنها إدراك ووعي للذات، وعي لحظي مستمرّ، مُفرِح ومؤلِم في آنٍ معاً. كما يجب الإقرار بأنّ التجربة الدينية الجماعية والمُمأسسة، بغضّ النظر عن مقدار نجاحها أو فشلها الظاهريّ، قد فشلت فشلاً ذريعاً في جعل الإنسان أكثر وعياً لذاته، وللعالم، ولمعاني الألوهة، وهكذا يبقى الاختبار الشخصي، رغم نواقصه، أكثر مدعاةً للثقة، لأنّنا في النهاية لا يمكن أن ندرك إلّا ذواتنا الفردية، سواء كان هذا بشكلٍ صحيحٍ أو خاطئ، فالسعي الجادّ والمخلِص في اتّجاه الفهم المرتكز على التماهي مع الشخصية الإلهية المدوّنة في الاختبار المسيحي الأصيل (العهد الجديد وما يسير على شبهه) يحمي من التعمّق في الاتجاهات الخاطئة، التي تُمأسسها التنظيمات الجماعية، وتسبغ عليها قداسة يصعب نزعها.