بقلم فادي أبو ديب
من ينقذ دمشق من خطاياها؟ قرابة عامٍ مرّت على نشر المدوّنة أولى منشوراتها عن دمشق “وحيٌ من جهة دمشق”، ومنذ ذلك الحين لم تتوقّف الأحداث هناك عن الازدياد سوءاً على كلّ المستويات. وما بين كرٍّ وفرّ للجماعات المتمرِّدة والجيش السوري، نُكبَت العديد من الأحياء، وقُتِل المئات، وسادت الرّيبة كلّ التحرّكات، وانتشر الخوف بين العديد من شرائح المجتمع ممّا يحدث، وأحياناً من بعضها البعض، بما لا يختلف عمّا يحدث في باقي مناطق سوريا.
وانتشر الحديث مؤخَّراً عن تكوين العديد من الميليشيات المسلَّحة الشعبية في العديد من الأحياء الدمشقية، على شاكلة ما يحدث في مناطق أخرى من البلاد، ما يؤشِّر إلى احتمال دخول الصِّراع مرحلة جديدة تتسم بشكلٍ يشبه الحرب الأهلية في بعض الأماكن. وبهذا فإنّ دمشق لأوّل مرة في تاريخها الحديث والمعاصِر تواجه خطراً عظيماً جدّاً يتمثُّل في تحوّلها إلى كتلة نار تأكل الأخضر واليابس من البشر والشجر والحجر، بسبب عشرات وربما مئات آلاف المقاتلين في شوارعها، والذين لا ريب لن يوفِّروا شيئاً للقضاء على خصومهم، في حربٌ مجنونة أدواتها شبّانٌ مساكين، ووسطاؤها الكِبار دولٌ كُبرى بعيدة، أو صُغرى استغلّت الوضع لتحقِّق مكاسب تزيد من خلالها نفوذها الاقتصادي والدينيّ، في بلادٍ صار الدّين فيها في أسوأ مراحله تقريباً، من ناحية تحوّله إلى هَوَسِ جماعيّ تكفيريّ قاتل.
ومن دون الدخول في تفاصيل نسبة وجود الخير والشرّ في قضيّة الأطراف المتصارعة، فإنّه من المؤكَّد بأن السبب الجذري لما يحدث هو الخطيّة. نعم…إنّها الخطيّة الكُبرى، ألا وهي تجاهل القِيَم الإلهية، وانتشار الظلم والزّيف والتجديف على الخالق وعلى قيمة الإنسان الذي خُلِق على صورته؛ فبين طمعٍ سلطويّ مستبدّ لا يرحم، وبين هوسٍ دينيّ حاقدٍ لا يعرف المغفرة أو أيّ نوعٍ من أنواع المسامحة، بدأت المعركة الكبرى. دمشق التي لم يهتمّ حكّامها يوماً بإنشاء فِكر متنوِّرٍ بعيداً عن مجاهل القوميّة والدّين ،وهما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة، إأحدهما مكتوبٌ عليه القوميّة العربية والآخر منقوشٌ عليه الوحدة الإسلامية، والمشروعان أكثر سوءاً من بعضهما البعض!
دمشق – وما يقع ضمن سلطتها- التي لم تعرف أديانها الرّسميّة أنّ التحرّر لا يكون بتمييع القِيَم الإلهية ،وأنّ الالتزام لا يكون بحِفظ الشّرائع دون فهم فحواها وبحفظ كُتُبٍ مقدَّسة غيباً. ولم تنفع عراقتها في تعليم الأجيال الجديدة ومَن يقوم عليها بأن التقدُّم البشري لا يكون بتكديس المال واستهلاك التقنيّة وتذويب أيّ فرصةٍ لتنشئة أجيالٍ تفكِّر. دمشق، التي لم تنشئ صرحاً واحداً يمكن للإنسان أن يكون فيه حرّ الفِكر للنهاية، من دون أن يستكبر ويجدِّف ، أو يُغتال فِكريّاً أو جسديّاً.
كيف يمكن لمدنٍ كبرى أن تنعم بالسلام والطمأنينة، والغنيّ فيها يأكل الفقير وليس من منقذ؟ كيف يمكن أن نأمل بمستقبل مزدهر لمدنٍ كبرى والخطايا بكلّ انواعها تستفحل حتى الاستباحة وليس من يقول “كفى”؟ هل نظنّ أنّ الخالق لا يرى؟! هل نظنّ أنّ الدينونات هي خيالٌ أدبيّ قديم، أو وقائع كانت صالحة لآلاف السنين التي مضت، ولم تعد تحدث الآن؟
كم تحدّث بعضنا في السنين الماضية عن الدينونات القادمة، واتُّهموا بالتشدّد وعدم الفهم بحجّة أنّنا في “عصر النعمة الإلهية”؟! نعم، نحن في عصر النعمة لمن يقبل بها ويطلبها، ولكن كيف تُعطى العطيّة لمن لا يريدها؟! الرّحمة الإلهية مستعدّة للانسكاب على كلّ من يريد مهما بلغ سوء حاله، ولكن ماذا لو لم يُرِد؟
يقدِّم لنا الفصل 28 من سِفر التثنية ما يشبه القانون الإلهي للبركة واللعنة؛ فهناك وقت لكي يجازي الرب فيه كلّ شعبٍ وكلّ أمّةٍ على خطاياها، إن لم تتب وتعود عن كل آثامها، من فسادٍ وزيف، ومن تدميرٍ للقِيَم الإلهية، وتشويهٍ لاسم الربّ، وتشويش صورته المخلوقة، ألا وهي الإنسان.
كلّ المدن والمناطق التي تظنّ أنها بعيدة عن الخراب، وما تزال تعيش في جهالة الطّمع وعبادة المال كما كانت غيرها من المناطق، يجب أن تحذر من الاستمرار في هذا الطريق ويتنّبه مَن فيها، وخصوصاً ممن يحتسبون أنفسهم قائمين على مسؤولية تعليم الناس أُسُس الفضيلة، بأنّ عبادة المال لا يمكن أن تستمرّ وستُقاضى، كما أنّها عوقبت وتُعاقَب في مناطق أخرى لم يحلم أحدهم يوماً ما، ولا في أسوأ كوابيسه، أن ينالها ما وقع فيها من الدّمار والخراب. وما نشهده اليوم في دمشق، وما يُتَوقَّع أن يتطوّر إن استمرّ الحال كما هو، هو التدمير الكامل لهذه المدينة الجميلة والعريقة بفعل خطايا أبنائها، فالتأليه للمدن والحديث عن خلودها هو حديث غرور بشري خطير، فكلّ ما يصنعه الإنسان سيزول إن هو استمرّ في خطاياه.
مواضيع مرتبطة: