نقد التفاؤلية: التمسُّك بفكرة الحكم الأرضي للمسيح


بقلم فادي أبو ديب

DSCF0889

كثيراً ما تكون التفاؤلية بمستقبل العالم بناءً على وقائع معيّنة سبباً في ابتعاد أنظارنا عن الحقيقة الكبرى التي تظهر عند النظر إلى الأمور من منظورٍ تاريخيّ شامل.  فمثلاً ينظر البعض إلى بعض الإنجازات العلمية والتكنولوجية في مجالات الطب والاتصالات وغزو الفضاء ليعتبر من خلالها أنّ العالم يسير نحو الأفضل، وأنّ ما سيأتي أفضل بما لا يُقاس مما مضى.  وغالباً ما يكون سبب هذه المبالغة التفاؤلية أحد أو كلا أمريْن: الأول عو عدم الاطّلاع على تاريخ الشعوب والأمم، حيث يتبيّن من خلال هذا التاريخ أنّه ليس من حضارةٍ استطاعت الصّمود في وجه الزمن مهما عظُمت وامتدّت في الزمان والمكان، لا بل يبدو أنّه كلّما تعاظمت حضارة ما كان سقوطها مريعاً أكثر؛ والثاني هو عدم معايشة مشاكل العالم والطّلاع عليها عن كَثَب؛ فالأوروبي أو الأمريكي أو الآسيوي الذي لا يطّلع بشكلٍ كافٍ على مشاكل أفريقياً أو الهند أو شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية يظنّ بأنّ مشاكل الفقر والجوع والبطالة والتصحّر وما إلى ذلك هي مجرَّد مشاكل عابرة يمكن حلّها من خلال حفنةس من القوانين والتشريعات والمشاريع والتنولوجيا المتقدّمة.

كما أنّ التفاؤلية  تتخذ أحياناً تبريرات تستند إلى مزيج من الوقائع والتخمينات المبنيّة على العقائد الرّوحانية، والمثال الأكبر على ذلك هو نبذ معظم المفكرين المسيحيين منذ القرن الرابع خصوصاً وحتى القرن السادس عشر فكرة المملكة المسيانية الأرضية، تلك التي سيؤسّسها يسوع المسيح على الأرض عند مجيئه الثاني في نهاية الدّهر.  وقد تأسّس هذا النبذ على أساس فكرة تفاؤلية تقوم على الاعتقاد بأنّ المجيء الأول ليسوع المسيح إلى الأرض قد أتى ثماره النهائية في تأسيس الملكوت العتيد؛ حيث نقرأ عن أثناسيوس  الإسكندري، وهو أحد كبار آباء الكنيسة على مرّ العصور، في رسالته الدفاعية الشهيرة “تجسّد كلمة الله” تفسيره لنبوءة إشعياء التي تصرِّح بأنّه عند مجيء المسيا المخلِّص سيقضي بين الأمم (كحاكمٍ عادل)، وسطبع الناس سيوفهم سكك فلاحة وسيوفهم مناجل للزراعة، وأنّهم لن يتعلّموا الحرب ويحاربوا بعضهم البعض بعد ذلك (إشعياء 2: 4)، حيث يفسِّر أثناسيوس هذا النص بناءً على وقائع محدودة في الزمان والمكان فيقول عن  شعوب الأمم البربرية والوثنية:

حينما يسمعون تعليم المسيح فإنّهم في الحال يتحوّلون إلى أعمال الزراعة بدلاً من القتال، وبدلاً من تسليح أيديهم بالسيوف فإنهم يرفعونها في الصلاة، وبالإجمال فإنهم عوض أن يحاربوا بعضهم بعضاً يتسلّحون ضد الشيطان وضد الأرواح الشريرة. (52: 3)

وطبعاً لا يوجد أبعد عن الحقيقة من هذا الوصف لحالة العالم بعد مجيء المسيح، وعصرنا الحالي كم العصور السابقة دليل على ازدياد وحشية الإنسان بكل المقاييس.  ويبدو أنّ أثناسيوس كان متأثّراً بحالة الاستقرار المرحلي التي كانت تسود أرجاء الإمبراطورية الرومانية في بدايات القرن الرابع الميلادي، وخصوصاً أنّ تاريخ كتابة هذه الرسالة الدفاعية تعود إلى أيّام الإمبراور قسطنطين التي كانت تشهد أعظم الانتصارات المعنوية والسياسية للمسيحية.  ومن الواضح من نص إشعياء يتحدّث بوضوح عن حالة نهائية وعامّة تسود كلّ أمم الأرض ولم يشهد التاريخ مثلها أبداً، وهذا النص يتوافق بدرجات متفاوتة مع نصوص أُخرى  كنبوءتيْ  الفصلين 2 و7  من سِفر دانيال مثلاً.  فنص إشعياء لم يتمّ لا في المجال المادّي ولا حتى في المجال الرّوحي، فالضلال هو سيّد الموقف اليوم كما أنّ العالم يعجّ بالحروب والكوارث الاقتصادية غير القابلة للحلّ.  إلّا أنّ المواقف التفاؤلية لأثناسيوس وغيره من الآباء الكبار، ممن وضعوا أساسات هامّة في اللاهوت المسيحي، في عصرٍ كانت المسيحية تنتصر سياسياً على الأقلّ، كانت لها آثار لا تمّحي في زرع بذور من التفاؤلية غير الواقعية في ثنايا رؤية أقسام كبيرة من الكنيسة المسيحية للعالم، معتبرين بأنّ الانتصار الحقيقي يأخذ مجاله في العالم الرّوحي، وأنّ بعض التغيّرات الإيجابية في العالم هي دليل على هذا النتصار التامّ.

إنّ عالَمنا يحتاج أكثر من أيّ وقت مضى ليعرف عن طريق الكتاب المقدَّس أنّ حكم المسيح قادم لا محالة.  لماذا؟  لأنّ هذه الأرض والخليقة الأرضية مخلوقة من الله، وهي إن سقطت في الفساد وأنهكهتها حالة الإنسان الخاطئة، فلا يعني هذا أنذ مصيرها الاحتراق والنّفي.  فالاعتقاد بأنّ الأرض ستزول بمخلوقاتها، وسيحلّ مكانها مسكن أثيريّ سماويّ غير مادّي، هو بالإضافة إلى أنّه معتقد لا يجد له أيّ أثرٍ في الكتاب المقدّس، فهو أيضاً إقرار ضمنيّ بأنّ الله الخالق قد فشل في استرداد الأرض والطبيعة والخلائق من عبودية الفساد والإنهاك وقِوى الشرّ، وأنّه بسبب فشله هذا سيقوم بتدمير كلّ شيء كإله غاضب منتقِم!  فإن كان هنالك إيمانٍ بأنّ أجساد البشر ستقوم في حالةٍ مجيدة، فلماذا استبعاد الاعتقاد بتجديدٍ للخليقة المادّية.  الا يبشّر بولس في الفصل 8 من رسالته لأهل رومية بأنّ “الخليقة نفسها أيضاً ستُعتَق من عبودية الفساد إلى حريّة مجد أولاد الله”؟ (رومية 8: 21)

لماذا يجب أن يحكم المسيح؟  لنعرف ويعرف كلّ إنسان أنّ العدل والمحبّة لا يُعاشان فقط في عالم اللامادّي واللاملموس، بل إنّها معدّة أصلاً للخليقة بكلّ مادّيتها، والتي هي إبداعٌ إلهيّ خارج من أعماق طبيعته التي لا يُسبَر غورها، لا بل هي الخليقة التي قال عنها الربّ الإله مرّات عديدة في بدء الخلق بأنّها “حَسَنة”  (تكوين 1).  ولا ريب بأنّ الحلم المسيحي ، بغضّ النظر عن مجادلات اللاهوتيين، لم يتوقّف يوماً عن الإبحار في تخيّل عالم التناغم الإنساني- الطبيعي؛ فلطالما كانت الفسيفساء البيزنطية، وعلى نطاق واعتياديّ وواسع، تمثِّل في رسوماتها هذه الحالة من الانسجام الطبيعي الذي يؤشِّر إلى عودة جنّة عدن من جديد إلى هذه الأرض الجميلة، وأنّ الشرّ سيعاقَب ويُزال من هذه المملكة العتيدة.  ولعلّ في أمثلة المسيح عن القمح والزؤان (متى 13: 36-43) وعن الشبكة الملقاة في البحر (متى 13: 47-50) برهاناً على كون الأشرار هم من سيُرمون خارج الملكوت المسياني، الذي سيأخذ مكانه على الأرض، والذي فيه سيضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم (متى 13: 43)

إنّ الاعتقاد بأنّ نبوءات السّلام والتناغم البشري- البشري والبشري- الطبيعي- الإلهي قد تمّت في عالمٍ روحيّ محض، أو اعتبار بعض الآثار الإيجابية التي نراها هي علامة على الكمال الموصوف في الكتاب المقدس، وأنّ “جبل الرب” الذي تأتي إليه الشعوب (إشعياء 2: 2) موجود حالياً في عالمٍ روحيّ (أو يرمز إلى حقيقة غير ملموسة موجودة) لا يمتّ للأرض بصلة، إنّ هذا الاعتقاد يصيب بالإحباط الشديد كما أنّه يقتل كلّ حلمٍ بأنّ مستقبلاً أفضل ينتظر هذه الأرض التي تستحقّ أن تتمتّع من جديد بالحكم الإلهي الذي فُقِد نتيجة العصيان البشري.

 

مواضيع ذات صلة:

موطن الإنسان

المدنيّة، مفهوم البركة المادّية والحُكم الألفي

الملكوت المسياني: عشق الإله والأرض والإنسان

الإعلان

2 comments

  1. عم حس بصراع بين عدة أفكار… حاسس في مؤشرات على الحالتين… مثلاً لما بيقول الرب ها أنا أصنع سماء جديدة و أرض جديدة … و لما بيحكي بطرس عن يوم الرب “الذي فيه تزول السماوات بضجيج، وتنحل العناصر محترقة، وتحترق الارض والمصنوعات التي فيها” هالشي ما بيأيد نظرية حكم المسيح على أرضنا الحالية…

    أنا برأيي رح يكون في جمع بين السيناريوهين: الأرض الحالية ستزول محترقة بسبب شر الإنسان (وليس لأن الله دمرها لأنه لم يعد قادر على إصلاحها) و يصنع الله أرض جديدة تنزل إليها المدينة السماوية مزينة كعروس لعريسها… و يحكم المسيح في هذه الأرض الجديدة…

    • الفكرة أن كل دلالات المسيح علىالملكوت بشكله المعلن (وليس بشكله القلبي) لا تتحدث عن حالة أثيرية هلامية، كما أنه لا يتحدث في متى 24 أو أي من النصوص الأخروية الأخرى في الأناجيل عن تدمير للأرض، بل يتحدث عن الملكوت كحدث قادم على الأرض، كما هو الحال في دانيال 2 و7.
      الإنسان غير قادر على حرق السماوات والأرض ولا على إذابة العناصر، ولا يوجد نصآخر غير نص بطرس يتحدث عن هذا الموضوع، لذلك يستحسن تفسير ما يتحدث عنه بطرس بأنه حالة تالية للحكم الأرضي، أو يمكن التفكير بأن بطرس يتحدث عن المصنوعات الأرضية والعناصر على أنها مصنوعات البشر وحضاراته.م

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.