بقلم فادي أبو ديب
يبدو أنّ قدر الإمبراطورية العثمانية هو أن تشهد حدثاً عظيماً واحداً على الأقل في كلّ قرن من تاريخها، وشاء التاريخ أن تكون هذه الأحداث كلّها نذير شؤمٍ على هذه الإمبراطورية المصطنعة التي قامت واستمرّت على الدماء، ولا ريب أنّها ستنتهي غارقةً فيها.
فبعد قيام الإمبراطورية إثر اغتصاب مدينة القسطنطينية في عام 1453م وارتكاب ما تشيب له الولدان من أفعال يندى لها جبين الله والإنسان، استمرت الجيوش العثمانية الغازية في الانحدار جنوباً لتسيطر على بلاد الشام ومصر في بدايات القرن السادس عشر الميلادي.
إلّا أنّ هذه السيطرة لم تكن إلّا نذير موتٍ محتّم؛ فالكبرياء العثماني الذي أبى إلّا أن يشقّ طريقه في أوربا، ونجح في احتلال البلقان واليونان واجزاء واسعة من جنوب وشرق أوروبا، لم يستطع الاحتفاظ بمكاسبه طويلاً، فهزائمه بدأت تتلو انتصاراته في القرن التالي مباشرةً؛ فقد سُحِقت الجيوش العثمانية في معركة فيينا عام 1683م. وقد كانت هذه الهزيمة بداية تقلّصات عديدة ألمّت بمساحة دولة القبائل التركية المغتصبة، فقد تلتها هزائم عديدة أمام الروس والنمساويين في القرن الثامن عشر. وأما القرن التاسع عشر فقد شهد خسارة هذه الإمبراطورية للبلقان واليونان وأجزاء عديدة من شرق أوربا، لتحلّ بها الفاجعة الكبرى إثر سقوط البلاد العربية كلّها في أيدي الثوار العرب بالتعاون مع الإنكليز في بدايات القرن العشرين. وهكذا فقد كانت الإمبراطورية العثمانية، وهي إمبراطورية تقوم أساساً على الغزو والتوسّع والنهب والإرهاب، مقيمة تحت لعنة التقلّص الجغرافي بعد زمن ليس ببعيد من بدايتها.
والسؤال الذي يقد يطرح نفسه هو: ما هو التقلّص الجغرافي الجديد الذي سنزل بهذه الأمّة في هذا القرن الجديد (القرن الواحد والعشرين)؟ التاريخ يشهد بأنّ كل شهوة عثمانية للتوسّع كانت تأتي بالوبال واللعنة على رأس هذه الأمّة، فاشتهاء السيطرة على فيينا والتحكم بكل أوربا من خلال هذا المركز الوسيط الاستراتيجي جلب على تركيا هزائم عديدة وسبّب انتباه الأوروبيين لهذا الخطر المحدق بهم من جهة الشرق، ودفعهم لمحاربتها والعمل على خنقها وتقويض أسسها.
وأمّا اليوم فإنّ شهوة التوسّع الإردوغاني الذي يرغب في استعادة أمجاد سفك الدماء العثمانية قد سبّبت دخول تركيا في مشاكل عويصة مع كل جيرانها، وأدّت إلى ازدياد الإنقسام الموجود أصلاً في داخل تجمّع الشعوب التركي، وبات كلّ من ليس لديه ميول للخلافة الإسلامية منتبهاً لخطر وجود الدولة التركية.
إنّ ما تشهده تركيا اليوم من احتجاجات عنيفة كان مبدؤها في مدينة القسطنطينية المحتلة ليس بحدثٍ عابر، بل هو شرارة انفجار برميل البارود التركي الذي سيخلط من جديد مكوّنات الدولة التركية، وربّما تدفع بجنون إردوغان العثماني إلى القيام بما يجعله يفقد المزيد من الأراضي، وهذا ما لن يكون غريباً إن أخذنا في الحسبان أنّ الدولة التركية المغتصِبة قد اعتادت خسارة البعض منها في كلّ قرن يمرّ على وجودها الثقيل في هذه المنطقة.
نبوءات الشيخ باييسيوس الآثوسي تقدِّر بأنّ نهاية تركيا ستكون في جيل لاحق من الحكّام الأتراك، جيل مختلف عن أولئك الذين شهدهم قبل وفاته في أواسط تسعينيات القرن العشرين. ولا ريب في أنّ هذا الجيل من الحكّام الإسلاميين الذين يحكمون تركيا يشكّلون جيلاً جديداً حقّاً، جيل يختلف عمّا سبقه في كثير من الأساليب والأهداف والتطلّعات.
كلام الشيخ ليس منزَلاً، ولا هو بوحيٍ من السّماء (على الأقل حسب تقديرنا)، ولكن ما قاله يتوافق مع القانون الإلهي الذي يسيّر التاريخ، والذي يُظهِر بأنّ من أسّس على الدماء بيتاً سيغرق فيها لاحقاً. قد يخطئ الشيخ وقد تعوزه الدقّة، ولكن القانون الإلهي واضح وهو يحتّم زوال الدولة التركية من الوجود.