الله، المصدر، المنظومة التي تعيش الحبّ تلقائياً بشكلٍ سرمديّ،اللامنتهي، هو كنبعِ يجري من مصدر مجهول بالنسبة لنا نحن الذين نعيش في عالم الملموس المحدود، وهو كالنبع أيضاً حين يدعو الناس بهدوءْ أحياناً أو بصوت خريرٍ قويٍّ أحياناً أخرى للشرب منه والاغتسال فيه، فبديهيّة الاقتراب من هذا اللامنتهي كبديهيّة اقتراب الإنسان من أيّ مصدر مياهٍ . هكذا هي الحياة، أحياناً بعضنا يقترب من مياه نبعٍ تلبيةً لدعوة صديق أو حبيب أبى إلّا أن نشاركه جلسة سًمًرٍ بقربه، ومراراً أخرى بعضنا يجد لذّةً أو حاجةً في الجلوس على ضفافه وحيداً طلباً للماء أو للتأمّل في مفاتن الطبيعة وأصواتها.
البعض يرتضي بأن يرِد هذا المَعين لينصب خيمته ساكناً بقربه بعد أن رأى بأنّ الحياة قرب عنصر الحياة حظوةٌ لا تُضاهى، والبعض الآخر فلا يتخذ من ضفافه مسكناً بل يقضي أيامه في قطع الطرقات إليه جيئةً وذهاباً فينال نصيباً عظيماً أيضاً من المياه،. وأما غير هؤلاء وأولئك فيرغب في الوصول إلى أكثر المواضع قرباً من المنبع ليستقي مياهاً أكثر نقاءً، وبعضٌ غيرهم ينحدر إلى المواضع التي يقلّ فيها جريان الماء لكي لا يحمِّل نفسه مغبة الخوض في المياه العميقة، أو لأنه متعجِّلٌ يريد أن يغسل وجهه ويرتوي مرّةً ثم يعبره سيراً على الأقدام إلى الجهة الأخرى ثم يمضي في طريقه، فيحصل على ما شيءٍ من الإرتواء ولكن مع كثيرِ من الأتربة. كلّ أولئك يحصلون على شيء من الماء، أي على شيْء من الإرتواء. كلٌّ منهم يروي شيئاً من عطشه للمعرفة، ويمتِّع ناظريه ببعض ما يكشفه نور اللامنتهي من عجائب في هذا العالم المنتهي، كلّ واحدٍ فيهم يعرف أن للنبع مبدأً في أعالي الجبال وفي بواطنها، ولكنّه يعلم أنّه ليس هناك من بدٍّ للشُّرب من هذا المنهل هنا والآن، ثم يختار بعضهم أن يبحثوا عن المنبع وينشغل بعضهم الآخر في مشاغل العالم المنتهي مكتفين بقليلٍ من الماء بين حينٍ وآخر. ولكن من بين كلّ أولئك يكون الخاسر الوحيد هو مَن يريد الارتحال صعوداً إلى المنبع من دون يأخذ في قُربته شيئاً من مياه النبع تردّ عنه شرّ العطش خلال رحلته الطويلة، فهو يتكبّر ويغترّ بقدراته ويرفض أن يشرب إلّا من المنبع ذاته، من رأس النبع. الحق الحق أقول لكم أنّه سيموت قبل أن يصل، لأنّ العطش سنّةٌ من سنن الحياة، وعادةٌ من عادات الجسد، وهي لا تميِّز بين غنيٍّ وفقير، بين حكيمٍ وجاهل، بين باحثٍ عن الحقّ أو متقاعسٍ عن البحث.
طوبى لمن يبحث عن المنبع وفي قُربته شيءٌ من مياه النبع فيحيا!
[…] بقلم: فادي أبو ديب […]